نحو تِرياق لإنعاش الديمقراطية المختنقة في ظل حكومة متغولة

أنوار بريس الخميس 22 مايو 2025 - 22:28 l عدد الزيارات : 16948

سعيد الخطابي

في مغربٍ يطمح إلى ترسيخ دولة المؤسسات والحق والقانون، يخيل للمتابع أن الديمقراطية – التي كانت بالأمس القريب ثمرة نضالات القوى الحية الوطنية والتقدمية – دخلت مرحلة انتكاسة صامتة، أقل ما يقال عنها إنها تعيش وضعا “سُخفانيا”، تختزل فيه السياسة في تدبير حسابي جاف، وتفرغ المؤسسات من مضمونها الرقابي، ويقابل فيه النقد بالممانعة، والاختلاف بالتهميش.
لقد أسفرت آخر انتخابات في بلادنا عن مشهد سياسي مشوه، أنتج حكومة برأس واحد وثلاثة أجساد، تبدو من الخارج موحدة، لكنها في العمق تعيش على توازنات هشة، عنوانها الاستفراد بالسلطة، وتهميش الرأي الآخر، والاستقواء بالأغلبية العددية لتمرير السياسات، لا للحوار أو الإصلاح.
تعيش البلاد اليوم أزمة ديمقراطية صامتة، تتجلى في تراجع روح التعددية، وفي تكريس منطق الصوت الواحد داخل الحكومة، مما أدى إلى انكماش الفضاء السياسي، وتحول الفعل العمومي إلى عملية تقنية تدار بعقلية التدبير المقاولاتي لا برؤية مجتمعية واضحة. حيث تم تغييب البعد السياسي في القرارات الكبرى، وأصبحت الحكومة تُقدم نفسها كفريق تقني، بينما تغلق أبوابها أمام الحوار، وتقصي المعارضة من النقاش العمومي، وتتعامل مع المؤسسات المنتخبة بمنطق الفوقية.
ومن أخطر تجليات هذا الوضع ما نشهده من استخفاف غير مسبوق بالعمل النيابي والرقابي. فغياب الوزراء عن جلسات المساءلة الشهرية، وتهربهم من مواجهة أسئلة الأمة، لم يعد سلوكا عارضا أو خللا بروتوكوليا، بل بات يعبر عن نزعة سلطوية متنامية. إن هذا التغيب المتكرر يُجسد بوضوح استخفافا بالدستور وبأدوار البرلمان، ويؤدي إلى إفراغ العمل الرقابي من مضمونه، ويرسخ عقلية التسلط والاستكبار السياسي، ويغذي هيمنة السلطة التنفيذية على الحياة المؤسساتية، في غياب توازن السلط الذي يفترض أن يشكل جوهر الديمقراطية.
أما الفضاء الإعلامي، فقد أُعيد ترتيبه ليخدم الصوت الرسمي وحده، فيما تقصى المعارضة من حقها في التعبير، ويحاصر الرأي النقدي، ويختزل النقاش في تبرير القرارات لا مساءلتها. ولم يسلم الشارع من هذا المنطق الإقصائي، إذ تواجه الاحتجاجات الاجتماعية – مهما كانت مطالبها مشروعة – بالتجاهل أو التأويل الأمني، وكأننا أمام حكومة لا تعترف إلا بمنطق الطاعة، وترى في النقد تهديدا لا فرصة للتقويم.
إن هذه الحكومة التي جاءت تحت يافطة “الفعالية والإنجاز”، و”المعقول “” واغاراس اغاراس ورفع التحدي في الوعود المقدمة في البرنامج الانتخابي حالة ما لم يتم تحقيقه بالرشق بالحجر في صرف 2500 درهم لكل مواطن “ضربونا بالحجر” تحولت في الواقع إلى نموذج للاستهلاك الديماغوجي والهروب نحو الامام وأعلنت بناء جدار برلين من الانغلاق والمقاطعة مع المواطنين ، حيث فقدت القدرة على التفاعل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية الحارقة، وعلى رأسها أزمة التعليم، وتدهور القدرة الشرائية، والبطالة ومشاكل العالم القروي وازمة زلزال الحوز وضعف الاستثمار في الصحة والحماية الاجتماعية. فلا إبداع سياسي، ولا قدرة على تعبئة المجتمع، ولا إشارات على مراجعة الاختيارات الفاشلة.
في هذا السياق، تبدو الحاجة ملحة إلى ترياق ديمقراطي يعيد الحياة إلى المؤسسات، ويحرر العمل السياسي من هيمنة الحسابات التقنية الضيقة، ويعيد للبرلمان دوره كفضاء للرقابة والتشريع الجاد، ويُعزز موقع المعارضة كقوة اقتراح ونقد. ترياق يخرج الفعل الحكومي من جبة التحكم، ويؤسس لتوازن فعلي بين السلط، وينعش الأمل في إمكان بناء ديمقراطية حقيقية لا شكلية.
إن المغرب، بكل ما راكمه من تحولات، يستحق أكثر من حكومةٍ تدبر بالصمت، وتتحصن بالأرقام، وتستفرد بالقرار. إنه في حاجة إلى رؤية سياسية، إلى جرأة في الإصلاح، إلى إصغاء حقيقي لنبض المجتمع. وهذا لن يتحقق إلا إذا أدركت قوى التغيير – وفي طليعتها القوى الديمقراطية والتقدمية – أن الترياق المنشود لن يأتي من داخل دوائر التحكم، بل من نضال مستمر لاستعادة السياسة من أيدي الحسابات الضيقة، ومن رحم التعبئة الجماعية من أجل كرامة المواطن وحرية التعبير واستقلال المؤسسات.
فهل نمتلك، اليوم، كقوى حية وضمائر يقظة، الشجاعة لبدء هذا التحول، قبل أن تستفحل أزمة الثقة وتستكمل الديمقراطية تقهقرها إلى مجرد واجهة فارغة؟

سعيد الخطابي
الكاتب الإقليمي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالحسيمة
عضو المجلس الوطني.

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الجمعة 23 مايو 2025 - 09:39

ارتفاع كبير في طلبات تأشيرة شنغن والمغرب ضمن المراتب الأولى…

الجمعة 23 مايو 2025 - 09:32

المفتش العام للقوات المسلحة الملكية يستقبل قائد قوة البعثة الأممية بالأقاليم الجنوبية للمملكة

الجمعة 23 مايو 2025 - 09:28

الرباط… انعقاد الدورة الـ 20 لاجتماع كبار المسؤولين لمنتدى التعاون العربي الصيني والدورة الـ 9 للحوار السياسي الاستراتيجي

الجمعة 23 مايو 2025 - 07:02

بنكيران محرّف بارع للوقائع..حين يذرف من أجهض الرقابة دموعًا زائفة باسمها

error: