اغتيال الجامعة باسم مكافحة الفساد

محمد الطالبي الجمعة 23 مايو 2025 - 22:41 l عدد الزيارات : 10910

من جديد، تستهدف الجامعة المغربية، لا كفضاء للعلم والمعرفة فحسب، بل كإحدى مؤسسات بناء المستقبل. فخلف ما يتم تداوله عن “فضيحة بيع الشهادات” بجهة سوس العالمة ، هناك محاولة ممنهجة لضرب ما تبقى من الثقة في التعليم العالي، دون انتظار نتائج التحقيقات أو احترام قرينة البراءة.

لست هنا بصدد تبرئة أحد، كما أنني لا أزكي الفساد إن ثبت، فالقضاء وحده سيد الموقف، وما يجري اليوم ليس سوى أبحاث وتحقيقات تحت إشراف الجهات المختصة، لكن من الظلم أن نعمم الاتهام، وأن نسقط مؤسسة بحجم الجامعة في مستنقع الشك بسبب ممارسات أفراد، قد تكون معزولة، وقد تكون جزءاً من واقع يحتاج لإصلاح حقيقي.

الحديث عن “شواهد تُباع وتشترى” وعن “مبالغ قارونية” يفرض علينا طرح السؤال الأكبر: أين كانت الرقابة البيداغوجية والإدارية؟ أين هي الوزارة الوصية؟ وأين موقع الحكومة من كل هذا؟ بل أين ممثلو الطلبة الذين لطالما تشدقوا بالدفاع عن كرامة الطالب والجامعة؟ وهل بات شعار “الجامعة للطلبة” مجرد ذكرى ترفع في المهرجانات ولا تُترجم في المواقف؟

لكن الأدهى من كل ذلك هو ما يبدو وكأنه حرب مستمرة لضرب كل ما هو قيمي، واليوم جاء الدور على الجامعة، على التعليم العالي، على المستقبل، وعلينا جميعا، فما يروى مؤلم، نعم، وقد يكون خطيراً، لكن إسقاط الجامعة أخطر بكثير. لأن الأمر لم يعد يتعلق بمحاكمة واقعة، أو زلة، أو حتى جريمة شنعاء، بل صار أقرب إلى تعليق المستقبل، ودفن الجامعة حيّة، وحرمان الوطن من منارة العلم والنقد والتقدم.

الجامعة ليست بناية من إسمنت، بل منظومة من المعاني. إنها ورشة أخلاق قبل أن تكون مصنع شواهد، ومهما قيل عن بعض الأطر الفاسدة، يبقى المبدأ هو أن نُعيد بناء الثقة من الداخل، وأن نعيد للجامعة رسالتها التربوية والمجتمعية، عبر برامج جوهرها الأخلاق قبل الكفاءة، والضمير قبل الشهادة، لأن الطبيب دون أخلاق خطر على الأجساد، والقانوني دون ضمير خطر على العدالة، ودارس الفلسفة بلا وعي خطر على الفكر، ودارس الجغرافيا بلا وطنية خطر على الحدود.

لقد عرفت الجامعة المغربية، على مر العقود، نساء ورجالا علمونا معنى النضال الفكري والبحث العلمي النزيه. منهم من قضى نحبه دون أن يُكتب له أن يرى ثمار إصلاح حقيقي، ومنهم من بقي واقفا، يقاوم، يضيء شموع الأمل في قاعات يعلوها الغبار، وميزانيات لا تكفي لطباعة بحث واحد.

أتذكر جيداً كيف كانت بداياتي في الجامعة، في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، حيث كان بعض الأساتذة يُمارسون سطوة مقيتة على الطلاب، وتُسجل حالات انتقام بيد البعض ممن لم يكونوا أهلاً للتعليم العالي. ومع ذلك، كان هناك من علّمنا كيف نقرأ، وكيف ننتقد، وكيف نحلم بوطن لا يُكافئ الرداءة.

وهنا لا بد من التذكير بالحكايات المنسية عن رجال ونساء التعليم العالي، ممن آمنوا بالعلم لا كوظيفة، بل كرسالة. حكايات تستحق أن تُدرّس للأجيال القادمة، عن أساتذة قدّموا محاضراتهم وهم متطوعون، وبسطاء، ومؤمنون أن نشر المعرفة هو صدقة جارية، وأن خدمة الإنسان والوطن بالعلم هي أعلى مراتب الشرف. أولئك الذين لم يسعوا إلى مجد شخصي، ولا إلى لقب أو كرسي، بل كانت قاعات الدرس منابرهم، والكتاب سلاحهم، والتكوين مسؤوليتهم الأخلاقية العظمى.

وفي خضم هذه العاصفة، لا بد أن نستحضر نماذج سوداء أخرى تضر بصورة الجامعة المغربية، كظاهرة “جامعة الفرات”، تلك التي ارتبط اسمها بتسويق الشهادات والماجستيرات في الأسواق، بلا معايير ولا ضمير علمي. مؤسسات تستغل الفراغ القانوني وغياب المحاسبة لتقدم وهماً أكاديمياً لمن يدفع، وتُعمّق جرح الثقة في التعليم العالي، داخل المغرب وخارجه. هذه النماذج يجب أن تُفضح، لا لكي نُعمم الشك، بل لنفهم أن المعركة من أجل الجامعة ليست فقط محلية، بل كونية، وأن الدفاع عن قيم التعليم النزيه هو دفاع عن كرامة وطن.

نعم، الجامعة اليوم تعاني. لكنها ليست مجرد عنوان لفضيحة، ولا يليق بها أن تُختزل في سلوك فرد أو حتى شبكة. إنها صرح من نور، يُستضعف باسمنا جميعاً، ويُهاجم في غيابنا جميعاً، ويحتاج أن نكون في صفه لا في صف جلاديه.

الجامعة هي المستقبل. وإن لم ننصفها اليوم، فإننا سنُحكم بأن نكون غرباء في تاريخ هذا الوطن. فليكن دفاعنا عنها من أجل الأجيال القادمة، ومن أجل كرامة شعب لا يستحق سوى جامعة تليق به.

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الجمعة 23 مايو 2025 - 23:31

خريطة الفقر في المغرب…حين يجد المواطن نفسه في مفترق المعاناة

الجمعة 23 مايو 2025 - 19:46

انقطاع مؤقت لحركة السير بين عين داليا ومدينة محمد السادس بطنجة…

الجمعة 23 مايو 2025 - 17:57

توقيع اتفاقية شراكة بين جامعة محمد الخامس بالرباط ومجموعة التجاري وفا بنك لتعزيز ريادة الأعمال لدى الشباب

الجمعة 23 مايو 2025 - 16:33

وزارة الأوقاف تدعو هؤلاء الحجاج للإحرام في الطائرة…

error: