من أوراق مُدَرِّسة: التعليم بين شغف الأمس وبيروقراطية الواقع المر

أنوار بريس الأحد 22 يونيو 2025 - 00:38 l عدد الزيارات : 18270
  • لبنى العامري

في كل صباح، أدخل القسم وفي قلبي شيء من الشغف، شيء من الأمل المتعب، شيء من ذاك الإيمان القديم بأن التعليم رسالة، لا وظيفة، أحمل بين يدي حقيبتي وكومة من الأوراق، وأحاول أن أتجاهل ثقل الظلال البيروقراطية التي تزداد كثافة عاما بعد عام، حتى صار المعلمُ مجرد رقم بين دفاتر الحضور، وصار التلميذ ملفّا ينتظر التقييم لا الكلمة، وزارة التعليم التي يُفترض أن تكون الحاضن الأكبر للفكر والتربية، تبدو اليوم وكأنها فقدت بوصلتها، تُغرقنا بالمستجدات، لا لكونها ضرورية، بل لأنها جديدة، فقط، مستجدات في الشكل، لا في الجوهر.

تغييرات متتابعة في المصطلحات والمقاييس والمفاهيم، ولكنها لم تمس يوما لب المشكلة، لم تلتفت إلى ما نعانيه حقا داخل القسم: الاكتظاظ، التهميش، الإحساس بالوحدة، الضياع بين عبء التبليغ وغياب الأثر، أصبحت اللغة الوزارية لغة خشبية، تكرر نفسها في كل منشور، بلغة معقّدة متعالية لا تعني المعلم بشيء، تتحدث عن “الارتقاء بجودة التعليم”، و”تحقيق الإنصاف وتكافؤ الفرص”، و”دعم الكفايات الأفقية”… ولكن على الأرض، نحن نكافح لنجد كرسيا لتلميذ، أو وقتا نفسح فيه صدرنا لقلق طفلة لا تفهم الحرف،

في ظل هذه المستجدات، صرنا نحس أن الوزارة تُجدد جلدها فقط لتبدو أمام العالم أنها تتحرك، تغيّر نظام التقويم، تغير شكل الفروض، تتبدل المصطلحات من سنة لأخرى، ويطلب منا أن نحفظ هذا التحول لا أن نفهمه، والمضحك حد البكاء أن كل هذه المستجدات تُقدم على أنها “إصلاحات عميقة”، في حين أننا نعلم، نحن الذين في الصفوف الأمامية، أنها مجرد طلاء على حائط متصدع، أشعر أحيانا أني أُملي تعليمات أكثر مما أفتح نوافذ في العقول، أدوّن، أملأ الخانات، أرفع الوثائق، أحرص على التوقيع، وأواجه واقعا لا يُعبّر عنه أي تقرير، أما الحقيقة، فتعيش خلف الكواليس: تلميذ بلا قلم، قسم لا يسع أنفاسه، ومعلم مرهق من الركض بين النصوص والمذكرات، بين الدفاتر والأوراق الإلكترونية.

خارطة الطريق؟ لم أرَ فيها إلا خطوطا بعيدة عن القسم، تشبه خريطة سفر لا وجهة لها، كل شيء في الوزارة يُدار كما لو أن الأرقام تهم أكثر من التلاميذ، حين تصبح الأرقام أهم من التلاميذ، نشعر أن التعليم صار تجارة في جداول، لا رسالة في العيون، أحيانا، أقرأ المذكرات وأبتسم بمرارة، كل شيء مضبوط، مرتب، منطقي… فقط لأنه مكتوب، أما حين أدخل القسم، فأواجه وجوها متعبة، وكتبا تفتقر إلى الروح، وزملاء يبحثون عن معنى لما يفعلون، ما نريده بسيط يا وزارة التعليم: لا نطلب معجزات، فقط نريد أن نصبح جزءا من القرار، أن يُسمع صوتنا، أن يُبنى الإصلاح انطلاقا منا، لا من فوقنا.

نريد أن يُفهم أن التعليم لا يكون بالمساطر بل بالعلاقات، لا بالمذكرات بل بالقلوب، أن يُعترف بأن المعلم ليس موظفا، بل روح تقود الأرواح، لماذا لا تكون هناك مستجدات حقيقية؟ مستجدات تُعيد للمدرسة دفئها، وتجعل العلاقة بين التلميذ والمعلم محمية، مشجعة، إنسانية؟ لماذا لا تُبنى السياسات على قصص الواقع، لا على نظريات مستوردة؟ لماذا لا يُسأل المعلم، قبل أن تُصدروا مذكراتكم: هل هذا ممكن؟ هل هذا إنساني؟ هل هذا في مصلحة المتعلم؟ لقد خنقتنا البيروقراطية، لا فقط في الوثائق، بل حتى في الأفكار، كل شيء موجه، كل شيء مراقب، كل شيء تحت السيطرة.

أصبح المعلم يتحرك وكأن فوقه عدسة تراقب حركاته وسكناته، وصار التلميذ مقيّدا بتقويم لا يرى جهده، بل فقط نتيجته. إن التعليم لا يُختصر في جدول وحصة ودفتر توقيع، التعليم هو بناء إنسان، التعليم هو لحظة إنصات لطفل خائف، هو شرح فكرة بألف طريقة، هو الحضور الصادق، لا فقط الجسدي، وإلى أن تُدرك الوزارة هذا، سنبقى نحاول، نحاول أن نعلّم رغم الخنق، أن نضيء رغم العتمة، أن نؤمن رغم كل هذا اليأس المصقول، لأننا نحب ما نفعل، ونحب من نعلّم، ونحب أن نكون نحن، لا أدوات في آلة لا تعرف سوى الدوران، وإن كنا نُخطئ أحيانا، ونتعب كثيرا، ونفكر في الانسحاب أحيانا أخرى، فإننا نعود دائما…

لأن القلوب التي اختارت أن تُعلّم لا تعرف الهروب، بل تعرف كيف تقاوم، كيف تُبقي شعلة النور متقدة في وجه هذا البرد الإداري الطويل، ورغم قِصر تجربتي في التعليم، إلا أنني تعلّمت منها ما لا يُحصى، وكأن كل قسم دخلته كان مرآة لنفسي. أدركت أن التعليم ليس مجرد مهنة أمارسها، بل شيء أقرب إلى فطرةٍ في داخلي. ربما لهذا السبب غلبت فطرتي بيروقراطيتهم، وكنت أعلّم بروحي حين أرادوا مني فقط أن أملأ الخانات، قد لا يكون صوتي عاليا، لكنني أعلم يقينا أن الأثر الحقيقي لا يُقاس بالصوت، بل بالحضور.

تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Google News تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على WhatsApp تابعوا آخر الأخبار من أنوار بريس على Telegram

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.

تعليقات

0

مقالات ذات صلة

الأحد 22 يونيو 2025 - 07:39

الفنيدق: تثبيت علامات الوقوف المجاني بكورنيش الريفيين يلقى استحساناً واسعاً

السبت 21 يونيو 2025 - 13:03

التضخم السنوي يرتفع بـ0,4% والمعيش اليومي للمغاربة يزداد اختناقا

الجمعة 20 يونيو 2025 - 13:40

وزارة الداخلية تصدر بلاغ تذكيري حول الخدمة العسكرية…

الجمعة 20 يونيو 2025 - 12:20

نشرة إنذارية.. طقس حار من الجمعة إلى الثلاثاء…

error: