ذ. محمد عياش (°)
1 – من أصعب التحديات التي يمكن أن تشوش على المُطالَب بتقديم شهادة يُفترض فيها أن تكون صادقة وأمينة بحق منجم فكري وإبداعي منذور للعطاء والسخاء مثل الدكتور محمد أمنصور (°°) أقول : من أصعب التحديات هو إيجاد المسافة الوجدانية الكافية بين النبرة وبين الصوت، أو بين الذاتية وبين الموضوعية في سياق إنساني يستوجب بلوغ حد مسموح به من الصدق والأمانة والتجرد والإنصاف …فأن أدلي بشهادتي حول أمنصور كإنسان أو كمبدع معناه أنني سأكون ملزما – بالقوة وبالفعل – على أن أتقاسم معه السباحة في النهر نفسه لما يربو على نصف العمر تقريبا، وهذا ما سيشفع لي أمام التاريخ إن كانت الخطوط والألوان في رسم هذه الشهادة المقتضبة تبدو ممهورة برعشة الانفعال الداخلي المنفلت، ولوثة الرغبة الغامرة في استعادة شذرات سيرة مشتركة ثرة وأثيرة.
2- بحكم الرابطة الدموية التي تجمعني ب” سي محمد ” كما تعودنا أن نناديه في وسطنا العائلي الضيق والواسع، لاأستطيع أن أحدد نقطة بداية لعلاقتنا الواعية المحكومة بثناية الأنا والغير .معرفتنا الخارجة عن والمتمردة على زمن البداية هاته، والتي أفرزتها قدرية سلالية تعود – بالأساس – إلى الرابطة الدموية بيننا من جهة الأبوين، وما تلاها من قدرية زمكانية تجلت في الانتقال الأسري من محيط قبلي أطلسي أمازيغي قصد الاستقرار في محيط حضري متمدن وحاضن لفسيفساء ثقافية خلاقة هي مدينة “مكناس” بعد الاستقلال بسنوات قليلة .هذه القدرية متعددة المظاهر هي التي ستورطنا أنا وسي محمد في علاقة استثنائية وثيقة لن ندرك أثرها الحقيقي في بناء الشخصية وتحديد المسار إلا في السنوات اللاحقة ، خصوصا بعد اجتياز مرحلة المراهقة بأقل الخسائر الدراسية والنفسية و الفكرية الممكنة.
. 3- طفولة سي محمد ودراسته الابتدائية التي قضى جزءا منها بالمدينة الجديدة بعيدا عن طفولتي ودراستي اللتين قضيتهما داخل القاعدة الجوية الثانية ثم في مدرسة الحي الصناعي لاحقا ، فرضتا علينا ألا نلتقي إلا في المناسبات والزيارات العائلية المتقطعة بسبب صغر السن اولا، وبُعد المسافة بيننا ثانيا، لكن، منذ انتقال أسرة سي محمد إلى السكن الجديد بطريق الحاجب (بين المركب الثقافي الحالي وبين إعدادية الزهراوي)، ستبدأ علاقتنا في التوطد بفعل توفر التوابل الضرورية لذلك من قبيل الانخراط في الطقوس البدئية لاستقلال الشخصية، والدراسة بالإعدادية نفسها، وقرب المساقة الجغرافية بيننا،والشعور المتبادل بيننا بالحاجة إلى تكسير رتابة الالتزامات الدراسية طيلة الأسبوع عبر زيارات متكررة في نهاية الأسبوع من أجل قضاء هذه العطلة الصغيرة في التسلي والمرح والسمر والشغب.
4 – سي محمد كما عهدته في المرحلة الثانوية التي التحق خلالها “بثانوية النهضة” (أنا كنت قد غادرت قبله إعدادية الزهراوي بسنة ،والتحقت بثانوية أخرى هي “الإمام الغزالي” طريق فاس بالقرب من المركز التربوي الجهوي آنذاك ) تلميذ اختار مثلي الشعبة الأدبية عن عشق محض لما في عالم الأدب من حرية وتمرد وجمال وثراء …لكننا لم نكن نحاضن هذا الأفق الادبي الممتد إلى مالانهاية بالنغمة نفسها ، وبالمزاج نفسه، وبالمنسوب الوجداني نفسه … هذا الاختلاف غير المخطط له سلفا لم أنتبه ساعتها – بالنسبة لي على الأقل – إلى أهميته في بناء شخصية كل واحد منا من جهة، وفي إغناء علاقتنا التي لم تكن تزداد إلا وثوقا مع مرور الوقت من جهة أخرى إلا لاحقا.
وفي هذه المرحلة المفصلية من حياتنا معا ستظهر ميولاته القرائية والفنية عبر إقباله الجارف والمدهش على قراءة كتاب عصر النهضة من أمثال طه حسين، وعباس محمود العقاد، وسلامة موسى، وأحمد زكي نجيب محمود، ونجيب محفوظ …والفلسفة الغربية خاصة عند سبينوزا ونيتشه … بموازاة بداية تشكل ذائقته الفنية بدءا بإدمان أغاني العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ بشكل خاص، فضلا عن شغفه القوي بالأغاني الأمازيغية، ولاسيما ما كنا نشنف به أسماعنا من أشرطة غنائية لكل من رويشة ومغني وعروب … دون أن أغفل ارتياده المتواتر لمكتبة المركز الثقافي الفرنسي واستعارة الكتب الفرنسية، ومشاهداته السينمائية الحميمة “سينما أومبير” لروائع الفن السابع بفضل انخراطه في النادي السينمائي وقتئذ…
بجوار هذه الاهتمامات الأدبية والفكرية والفنية كانت لسي محمد نافذة أخرى يطل منها على العالم السياسي والثقافي على المستوى العربي والعالمي حيث كان يحرص الحرص الشديد على متابعة الأخبار السياسية والبرامج الثقافية في إذاعة القسم العربي بلندن “بي بي سي” والقسم العربي في إذاعة هولاندا وألمانيا أيضا …داخل هذا الفضاء الأدبي والفكري والجمالي المتنوع و الفسيفسائي ستبدأ شخصية سي محمد الشاب في التَبنيُن ورسم الحدود الكافية بينها وبين الآخرين من أجل بناء عالم خاص قوامه تدشين عهد جديد مبني على الاستقلالية وقوة الإرادة وعشق التمرد والتحدي، والبحث عن التميز الذاتي من خلال اجتراح أفق إبداعي ناشئ وجريء في الآن ذاته ..
5 – رحيلي إلى مدينة فاس لاستكمال الدراسة الجامعية سيحول دون استمرار علاقتي بسي محمد بالإيقاع المتصل والكثيف المعتاد، ومع ذلك، كنت أتابع ما يطرأ على حياته الشخصية من تحولات بفضل الزيارات التي كنا نتبادلها في العطل لحظة تواجدي مع الأسرة بمكناس، ويمكنني أن أقر بأن انتقال سي محمد إلى الدراسة الجامعية بكلية الآداب بمكناس ضمن اول فوج طلابي ستحتضنه رحابها عام 1982 سيساهم بدرجة عالية وقوية في بلورة وتعزيز السمات الإيجابية التي ذكرتها في شخصيته سابقا، وفي الدفع بقيم الإرادة والطموح وتأكيد الذات نحو مسافة بعيدة وبإيقاع متصاعد نتيجة تتلمذه واحتكاكه بأساتذة جامعيين أكفاء ومتحمسين للعطاء في كلية الآداب من طينة أستاذ الفلسفة “رشد” وأستاذ السيميائيات “سعيد بنكراد (حسب ما تسمح طاقتي الاستذكارية باستحضاره).
وبموازاة هذا الزخم الدراسي الخلاق، كان لسي محمد الطالب المتمرد نزوع نضالي تجلى – بصورة عملية – في خوض سي محمد حملات تعبوية وسجالات سياسية داخل حلقيات الجامعة استجابة منه لصوت الرفض المدوي الذي حمله معه منذ مراهقته الملتهبة .ولا غرابة في أن هذا الانخراط الصادق في النضال السياسي ذي المنزع التقدمي سيجر عليه بعض المضايقات من” أصحاب الحال”، إلا أنه سينجو منها لحسن حظه أو لعناية “رضاة الوالدين” التي أسبغتها عليه خالتي “امباركة” امد الله في عمرها وعمي “سي محمد أومالك” رحمه الله، كما وجد هذا النزوع النضالي امتدادا منظما وجماعيا له في انضمامنا معا إلى” فرع جمعية الشعلة للتربية والثقافة بمكناس”، رفقة طلبة ديناميكيين مفعمين بالرغبة والحماس الدافق لبلورة وتقاسم الاهتمامات الفكرية والإيديولوجية المهيمنة آنذاك داخل دار الشباب بشارع محمد الخامس ..
بين الضفتين، أقصد بين الأدب والسياسة سيتدفق ماء النهر متوثبا وصاخبا نحو منعطف آخر حيث سيقرر “سي محمد “مواصلة دراسته العليا بفاس بعد أن اختار الأدب الحديث شعبة لإرضاء هواه القديم ، وتفجير طاقته الأدبية الفياضة ن وتعميق معارفه الإبداعية والنقدية في الوقت نفسه …والتي توجها في الشق الأول من دراسته العليا بنيل رسالة السلك الثالث حول استرايتجيات التجريب الروائي ، ثم – بعدها بسنوات قليلة – حيازة الدكتوراة في الدائرة البحثية نفسها أي النقد الروائي .الشيء الذي أتاح له أن يشتغل بسلك التعليم العالي استاذا بالكلية نفسها “كلية الآداب بمكناس”التي احتضنت هواجسه الأدبية ورعت فضوله المعرفي ولبت طموحه وتقبلت شغبه بكل اريحية
– 7 – منذ التحاقي بمدينة خنيفرة، أواخر الثمانينيات، لمزاولة مهنة التدريس بثانوية أبي القاسم الزياني، لم تعد ظروفي الجديدة تسمح لي بأن أحظى باقتناص واقتسام ما يكفي من اللحظات الجميلة مع “سي محمد ” الذي كان بدوره منصرفا إلى دراسته العليا بعد نيل الإجازة في الأدب العربي حول الاتجاه الواقعي في النقد المغربي .. كانت اللقاءات المتقطعة بيننا تهيؤنا – بشكل أو بآخر- لاجتياز منعطف جديد في علاقتنا الراسخة والحميمة، وأقصد بذلك بداية تحول العلاقة من شاعريتها الفضائية إلى شاعرية زمانية …لم يتبق لي- في وضعيتي الجديدة – سوى أن أسند ذاكرتي إلى حائط النوستالجيا المتبلة بألم الرغبة المتهيبة في استعادة ومضات من مفاتن الضوء الهارب ..فكلما انأيت في الزمن عن حدائق ذكرياتنا الباسقة، ازددت إحساسا بفداحة الفقدان لإنسان تتجاوز مكانته الشماء دائرة الرابطة الدموية والقرابة الأدبية لتستقر في قعر الوجدان كتلة كثيفة من القيم الأصيلة والمكارم النبيلة واللحظات البهيجة والخيبات الماتعة والطرائف الساحرة.
8- مهما أفضت في استعراض السمات اللافتة في الأستاذ والباحث والمبدع والناقد والجمعوي وابن العائلة “سي محمد أمنصور ” على امتداد رحلة العمر التي جمعتنا ،فإنني لن أبلغ من ضالتي في إنصافه ما يشفي الغليل .أقول قولي هذا وأنا في كامل التجرد من المجاملة والمحاباة لإنسان أمثاله نادرون في زمن اللهاث وراء السيمولاكر والمظاهر الخادعة والمصالح الضيقة العابرة …”سي محمد” الذي ورث عن أمه “امباركة” خصال الصبر والتحمل والتسامح والسخاء، وعن أبيه” محمد أوماليك” شيم التواضع والمرونة والانفتاح والتحرر وحب العلم والإيمان العفوي بالحق في الاختلاف، مثال للإرادة المشتعلة في تجاوز الصعاب وركوب التحديات بفضل ما يطبع شخصيته من إصرار بروميثي على كسب المعارك المتواصلة ضد التصدعات والانكسارات المتوقعة والغير المتوقعة، ومرجع قيمي للتفكر المتزن بفضل ما يميز روحه من وضوح مفرط في التواصل مع الناس والحياة قد يحمله البعض محمل القسوة والكبرياء والخشونة أثناء تصريف المواقف الإنسانية وتدبير العلاقات الاجتماعية …
والذين يعرفون “سي محمد” عن كثب، ويتذوقون ما يصدر عنه من أقوال وأفعال تبدو صادمة احيانا، حق التذوق يعلمون جيدا أنه شخص أنيس المحضر ، لين الجانب، بلوري القلب ، صقيل الروح ،جريء في اعترافاته ، مرح ونبيه في ملاحظاته العجيبة وتعليقاته الفياضة و الحصيفة …من عاشروا “سي محمد ” حق المعاشرة لن يختلفوا حول أن وراء صورته الصارمة يختبئ تواضع حكيم في شخصيته، وعفوية عميقة في سلوكياته، وجدية قصوى في قراراته أيا كانت آثارها المحتملة في حياته الخاصة والأسرية …ولكم أن تتخيلوا معي “سي محمد الشاب” بجوار فتاة يحدثها بمنتهى الصراحة عن ملابسه الداخلية التي لو اطلعت عليها لهجرته في الحال، أو سي محمد الطالب الجامعي أمام باحثين أكاديميين مدعوين للمشاركة في محفل ثقافي رسمي وقور وهو يتناول الكلمة بكامل الشجاعة ليزرع الارتياب في نفوس الحاضرين تجاه ما تفضل الباحثون الموقرون في التعريف به وإفاضة القول في تحليله، وإثارة الارتباك لدى هؤلاء الباحثين الحريصين أثناء الردود على إقناع الحاضرين بجدية ومصداقية عروضهم المسيجة بأسلاك عالمة وأكاديمية مسننة …
من رافق “سي محمد” بعيدا عن الأضواء سيكتشف أنه باحث استثنائي يفضل الاشتغال في صمت وتكتم بالغي الدلالة .فخلافا لعدد لا يستهان به من الباحثين وأساتذة التعليم العالي المتنطعين والطاووسيين والمصابين بداء الأعظمية العضال ، يتقدم إلينا” سي محمد” في جبة الباحث الهادئ والمحترس من كليشيهات التناول الأكاديمي والأعراض الجانبية للبارانويا المعرفية الممجوجة .. ولا غرابة في ذلك إذا ما استحضرنا تجربته الخصيبة مع ممارسة القراءة المستديمة لأمهات الكتب وعيون الأدب بمختلف ضروبه وأجناسه ..فهذا الاتصال الدائم والحميم والصادق مع النصوص القوية ومع مفكرين أفذاذ (الجابري والعروي مثلا)، وأدباء مشارقة رواد كطه حسين والرافعي والعقاد، ومغاربة من عيار الشاوي وبرادة والمديني والأشعري والخوري وكيليطو منذ حداثة سنه هو ما أهله لأن يقد من أحجار سيرته شخصية جامعة مفعمة بالثقة التامة في النفس، ومستقلة في التفكير والبحث والإبداع عن الآخرين كيفما كانت سلطتهم الرمزية داخل السوق الفكرية والادبية …
وهذا ما لا تخطئه عين القارئ الذي سيلاحظ قلة انشداد “سي محمد” في دراساته المنشورة إلى الإحالات والمرجعيات المتناسلة بشكل مبالغ فيه ..فهو أحرص ما يكون على تشرب رؤى ثقافية وأدبية وجمالية متعددة الروافد بإيقاع متريث ،وصوغها في قالب راق منسجم ، ومتكامل يستجيب لصوته الداخلي الممهور بالأصالة والتجديد والتميز …تلكم بعض أبرز المزايا التي لا يمكن أن ينكرها من سمحت له الظروف بالاطلاع على نصوص سي محمد أمنصور الإبداعية والنقدية المنشورة في الجرائد والمجلات والكتب والمواقع الإلكترونية …أو بالإنصات إلى تدخلاته في الملتقيات الأدبية داخل المغرب وخارجه ، أو بمتابعة حواراته في الإعلام السمعي البصري حول أعماله الروائية التي قد يستغرق جهد تأليفها وتنقيحها عقدا من الزمن كما هو الحال مع روايته الباهرة “دموع باخوس“…
(°) قاص وناقد يعمل في التدريس بخنيفرة
(°°) باحث جامعي، روائي وناقد مغربي من أعماله “دموع باخوس“، “في انتظار مارلين مونرو”، “خرائط التجريب الروائي”…
تعليقات
0