عبد المنعم محسيني ينعي جدته الفقيدة الحاجة بلعيدة: امرأة تحدت القهر فهزمت الجهل

45٬882

عبد المنعم محسيني

لقد حدث ما كان حتما سيحدث …وما كان مأمولا أن يتأخر حدوثه…حدث أليوم ، أن جسد جدتي الحاجة بلعيدة ، افرغ آخر ما استطاع من نفس ، ليسلم انفاس المرأة العزيزة لفضاءات التاريخ الرحبة والعطرة بأريج انبعاث النيات المخصبة لمشاتل ، تولد الشمس في مستقبل التاريخ….
أعلم أنك قد اختفيت لكنك لم تموتي…
أبكي
الأولاد والبنات يبكون
الأحفاد والحفيدات يبكون
الإخوان والأخوات يبكون
الأحباب والجيران يبكون
يبكون عزيزتهم …يبكون حبيبتهم …يبكون أمهم …يبكون جدتهم …يبكون الحاجة بلعيدة…
كانت كريمة وماتت كريمة…
كانت مغربية …أصيلة متأصلة..
السلام عليك يوم ولدت …والسلام عليك يوم رحلت …والسلام عليك يوم تبعثين امرأة عظيمة …
كنت معنا دومًا وستظلين معنا دائمًا.
لن نتركك تغادرين، فأنت في بؤرة وجودنا. …فأنت أمنا …أنت جدتنا …
لا أريد أن أتذكر،
لأنني لا أريد أن أنسى
ولا أريد أن أنسى
لأن الوجود أبقى
حتى في الغياب.
بلعيدة صنو وجود متعدد
وجود في الأعماق
وجود في الأماكن
وجود في الساحات
الضيقة والفسيحة
لن أقول وداعًا بلعيدة
لأنك لا تودعين
أنت ترحبين دومًا
أنت لا تودعين أبدًا
أنت باقية هنا بلعيدة
أنت في بؤرة وجودنا
جميعًا
في قلب كل حفيد وحفيدة
في قلبنا جميعا
أنت باقية بلعيدة
عظيمة
كما كنت عظيمة
أسطورة كما كنت
أما كما كنت
ضميرا كما كنت
ولم تبرحي
أنت هنا
وانت اليوم لم تفعلي الا أن حلقت الى مثواك في البراري المزهرة لذاكرتنا ، وهي التي تصون ، برفق وفرح ، حيوات أمثالك من مولدات التدفق في المجرى العظيم للأمل…
بلعيدة ممتدة في المشترك المديد والعميق بيننا…
بلعيدة..سنحفظ لك جميعا أنك كنت مدرسة…لذلك لن تذهبي بعيدا تحت التراب ، لأنك ستذهبين بعيدا فوق التراب …
بلعيدة…ذكراك ستزهر دائما …
وداعا امي وجدتي بلعيدة وسلاما لك وعليك مطلع كل فجر…
قصة الحاجة بلعيدة ، قصة مسار مليء بالمعاناة والقهر، لكنها قصة جديرة بأن تحكى، هي درس بل دروس بعناوين بارزة: الصبر والتحدي وقوة الإرادة، هكذا واجهت هذه المرأة المجاهدة إكراهات الحياة في مجتمع ذكوري بالمطلق ؛ صعب عليها أن تتكرر تجربتها في الوجود ، لذا حلمت بمستقبل جميل لأولادها وبناتها، لأحفادها وحفيداتها …وفي البدء كانت الكلمة، كلمة ” إقرأ ” …وهكذا كان المستقبل ضاحكا لذريتها وذرية ريتها ….قد يكون الماضي عذابا إنما المستقبل زهورا وورودا
القصة أحكيها اليوم ، يوم رحيلك، حفيدك المدلل عبد المنعم ، أحكيها بألم وحرقة ، أحكيها و أبكي … أبكي…أبكي …لكن أحكيها بفخر واعتزاز …
قصة هذه المرأة البركانية الأصيلة ، حكتها لي الجدة وأنا طفل ، ومازات القصة بتفاصيلها الدقيقة محفورة في ذاكرتي وأنا إطار كبير من أطر الدولة ، إنها قصة محفورة في العقل والوجدان ، في الهوية والكينونة ؛
وهذه هي القصة ، البعض من الكل ، سيرة امرأة بمليون رجل ؛
ماتت الأم وتيتمت بلعيدة ، تيتمت وهي طفلة في عمر الزهور ، في عمر 8 سنوات ، الطفلة فقدت أمها فودعت الحماية والرعاية ، الحب والحنان ، فقدت أمها لتقتحم المجهول وحيدة ويتيمة ؛
ازدادت سنة 1921 ، وسميت تبلعيت…وهذا الاسم سيكون له حضور قوي في العائلة ؛
كان لها اخوانها من أبيها ، وكان مفروضا عليها أن تواجه متاعب الحياة وصعوباتها منذ الطفولة … مرغمة على صعود الجبال لكي تحطب ، جبال ” تقربوصت ” بتافوغالت نواحي بركان ؛
ذات يوم خافت من إخوتها في غياب الأب ، حل الليل بظلامه ، هجمت عليها الذئاب المفترسة ، وكانت الشجرة هي المنقذة من هؤلاء الذئاب واولائك ، وقضت الليلة في الشجرة ، ولكم أن تتخيلوا الخوف المرعب لطفلة يانعة تواجه هذا في أبشع صوره ؛
وأنا أشيع جنازتها ، تذكرت قصة سيدنا يوسف ، ومأساته مع إخوته ؛
لما حضر أبوها وعرف مأساتها ، أخذها وتركها وديعة عند ” رقية ” ، قائلا لها “هذه البنت أمانة عندك ” ، وكانت رقية حكيمة وفي مستوى تحمل مسؤولية الأمانة ، زوجتها لابنها المقاوم سي أحمد البويعلاوي ؛
صحيح أنها كانت أمية تجهل القراءة والكتابة ، ولكنها كانت متنورة عقلا ومنطقا ، أنجبت أولادا وبنات أصبح لهم شأن كبير ؛ أطر في مختلف المجالات ..
شكلت مع لالة شريفة ثنائيا عصي على الاختراق ، رفقة وأخوة ، ود وحب ، احترام وتعاون …من هنا غرستا في الأبناء والبنات الحب والتعاطف الوجداني ، وهكذا الأخوة أشقاء أصبحوا أشقاء متحابين ومنسجمين ؛
امرأتان عايشتا مرارة الاستعمار وكانتا لزوجهما المقاوم الحاج أحمد البويعلاوي سندا وعونا …رفيقتا الدرب الطويل ؛
سكنتا منزلا واحدا بحي ” الطحطاحا ” زنقة فوغال، كان هذا المنزل فضاء للحب والمودة والتفاهم ومواجهة اكراهات الحياة ؛
قررتا الانتقام تمردا على الجهل ، عز عليها أن تسقط بناتهما في غياهب الجهل، لذا قررتا أن تداعب بناتهما القلم والكلمة مهما غضب السيد والجلاد ، حاربتا الجهل فزرعوا العلم والمعرفة في البنات ؛ أطر وكفاءات ؛ الحاجة منانة والحاجة حفيظة رحمها الله ، وكل البنات تحدين الجهل في عمق جبال بني يزناسن ، في زمن جبروت الرجل واضطهاد المرأة … ولم تكن هذه نهاية المشوار بل كانت بدايته ، التحدي هو العنوان والإصرار سيد الميدان ؛ يكتفيا بتربية وتعليم الأبناء والبنات ، بل استمرت التجربة المثمرة وامتدت الى الحفيدات والأحفاد و عبد المنعم منتوج لهذه التربية …حقا كانت بلعيدة وشريفة مدرسة في التربية والحياة ؛
لطيفة البنت الصغرى لبلعيدة مثال لهذه المدرسة ، لما نالت الباكالوريا ، ولكي لا تحرم البنت من الدراسات الجامعية في منتصف السبعينيات ، كافحت بلعيدة ضد ما كان يعتبر محرما ومستحيلا ، قهرت الفقر والعناد ، وكان ابناها مصطفى وعبد اللطيف رحمه الله لها سندا ، أقنعت بلعيدة زوجها الحاج أحمد البويعلاوي بضرورة أن تكمل لطيفة ردراستها الجامعية ، وكان العائق الأكبر ؛ ممنوع على البنات الانتقال من مدينة ( بركان ) الى مدينة أخرى ( وجدة ) لاستكمال الدراسة ، وكان الحل، أصرت الحاجة بلعيدة مغادرة مدينة بركان وتكتري منزلا بوجدة إنقاذا لبنتها لطيفة، وكان هذا المنزل يسع العائلة كلها ؛
البنت لطيفة أنهت دراستها بنجاح توج بالحصول على شهادة الإجازة ، وخلالها انهى إبناها دراستهما وكان كفاح المرأة منتجا والنتيجة في مستوى التضحية ، أصبح ابنها عبد الوهاب طبيبا متخصصا في الإنعاش والتخدير وحسن موظفا عموميا ، كما أصبحت لطيفة مفتشة للصندوق الوطني للقرض الفلاحي ،
وبنفس النهج والعزيمة كافحت لالة شريفة رحمها الله حتى نالت بناتها وأولادها شواهد عليا ، واشتغلوا في مواقع مهمة وتحملوا مسؤوليات عليا …
أولاد وبنات هاتين المرأتين ، شريفة وبلعيدة ،
في المنزلي العائلي ، منزل الصفاء والنقاء ، الحب والأخوة ، لعب ومرح ، تفاعل وتناغم ، هنا لا مكان للمشاكل ، بلعيدة أم الجميع وشريف أم الجميع ؛
مصطفى الابن الأكبر لبلعيدة يحضن جميع إخوانه وأخواته ، وكان منزله يحج إليه الجميع ،
مسؤولية هاتين المرأتين امتدت الى الحفدة ، منزل وجدة المكترى كان فضاء للعائلة ، بلعيدة ، بعد أن اطمأنت على الأبناء والبنات تفرغت لأحفادها وحفيداتها ؛
كانت توجهني وتنصحني وتدعمني وتؤطرني ،
كانت بلعيدة مدرسة ، مربية ومعلمة ، موجهة وناصحة …لا زلت أتذكر : أنهص في الصباح وأجدها ، بعد تحضير وجبة الفطور ، أراها بأم عيني على السابعة تضع الطاجين على المجمر ، في أيام الامتحانات خاصة تدعو لي ” سير اولدي الله اوفقك ، ثبت راسك وستنجح ” ف 12 عندما أعود ، الطاجين جاهز ، رحمك الله جدتي ؛
أتذكر ، وأنا صغير ، رافقتها الى حيث نمت وتربت ، ولأول مرة اعرف القنديل ، وكانت تحكي لي حكاياتها وجهادها في الحياة …
كبرت وسلطانها كان يخيم على العائلة كلها …امرأة استثنائية ، أسطورة ، هيبة فريدة وكاريزما قوية ؛
رحمك الله الحاجة بلعيدة ورحم الحاجة شريفة ورحم الله الجميع .

error: