«مولاي الطاهر مات». بعد صباح الخير مباشرة، رمت السيدة فتيحة الأصبهاني هذا الخبر على مسامعي، اختلطت الأمور أمامي هل أُصبِّر الزوجة المكلومة أم أستجمع وعيي لأستوعب هول الفاجعة؟ مزجت بين الاثنين وأنا أطرد ما ترسب من نعاس في جفوني. فقد كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا. خرجت من المنزل بعد أن تحدثت إلى السيدة فتيحة مطولا محاولا مواساتها، وفي طريقي إلى العمل، ظلت أغنية «عيني تجري بدموع» ترافق مخيلتي وأنا أستحضر صداقة هذا الفنان الكبير ومساره الفني المتعدد. رجل أناقة وأنفة، عفيف اليد واللسان، مرح المزاج، طيب المعشر، لا علاقة له بالأضواء كصديقه المرحوم عبد المجيد ظلمي، بصم على مسار حافل وغني. ومع ذلك، تجده قليل الكلام، أتصدقون أنه مات مسرورا وغير عابئ بخبث المرض الذي ينهش جسده، نعم إنه السرطان، الذي ظل مولاي طيلة الفترة الأخيرة يخضع للعلاج منه دون أن يدري بأنه مصاب بهذا العدو ، مخافة أن تتحطم معنوياته. فقد ظلت السيدة فتيحة والأبناء سفيان وجواد وغيثة، يخفون عنه خطورة ما يواجهه، بينما ظل كما عهدته على حاله المرحة يستقبل أصدقاءه في المنزل، يناقش ويحكي ويتبادل أطراف الحديث مع جلسائه، وكأنه في كامل قواه الصحية، ماعدا سؤال كان يطرحه بين الفينة والأخرى على فتيحة والأبناء «علاش ضعافيت بزاف؟».. كل أصدقائه، وبسبب بعد المسافة بعد أن انتقل من الدار البيضاء للسكن في مراكش، حينما يتصلون به هاتفيا لا يلمسون آثار المرض عليه، فصوته ظل هو صوته، ومعنوياته ظلت مرتفعة جدا، وضحكه ومزاحه لم يتغيرا وكأنه لا يعاني من شيء ، ماعدا في اليومين الأخيرين، حين اشتد عليه الأمر، ليغادر فجر يوم أول أمس..
مر مولاي الطاهر، في هذه الحياة خفيفا، وغادر خفيفا، رغم صولاته الإبداعية التي تزن ذهبا. فهو رجل مسرح بامتياز، ومن من نجوم مسرح الهواة، سواء داخل فرقة «شبيبة الحمراء» أو «كوميديا» في مراكش إلى جانب الكبار أمثال محمد شهرمان ومولاي عبد العزيز الطاهري ومحمد الدرهم والشكرا وآخرين، لا يتسع المقام لذكرهم جميعا، كما أنه نجم مسرحي في فرقة الطيب الصديقي، وما أدراك ما الطيب الصديقي، إلى جانب بوجميع والعربي باطما وعمر السيد وبنياز ومحمد مفتاح والزوغي.
شارك الراحل في العديد من العمال السينمائية والتلفزية، لأنه ممثل موهوب ، لكنه في ذاكرة كل المغاربة ، هو واحد من صناع الأغنية الغيوانية التي جرت الفن المغربي إلى العالمية في السبعينات، وجابت العالم العربي. فهو واحد من مؤسسي مجموعة «جيل جيلالة» وأحد ركائزها الأساسيين، وهي المجموعة التي لن أقول إنها خلدت لأغاني فائقة الروعة، بل سأقول إنها مدرسة في التراث الشعبي الوطني، لأنها وثقت لجل الإيقاعات المغربية، بدءا بإيقاع أقلال، مرورا بالحمدوشي والصحراوي والجبلي والهواري والحضاري والعيساوي وصولا إلى الكناوي، كما وثقت لفنون الدقة المراكشية وفنون القول وفن الحلقة والتقيتقات والفن البدوي والأمازيغي وغيره من الفنون، دون أن ننسى الملحون الذي أحيته وأعادت إليه الروح، وجعلنه يدخل إلى قلوب الشباب خصوصا، الذي كان يرى بأن هذا الفن يعاني من الرتابة والملل، لكن أصوات الدرهم ومولاي عبد العزيز وعبد الكريم وسكينة إضافة إلى مولاي الطاهر ستعطيه طعما آخر بل ستصالحه مع الجمهور في كل ربوع المملكة، بعدما كان حكرا على مناطق معينة..
مولاي الطاهر الذي لا يحب الأضواء، وكان يرى نفسه مجرد إنسان يؤدي واجبه وعمله بعيدا عن أي إحساس بالنجومية. وما لا يعرفه العديد من محبي المجموعات أنه كان من الأصدقاء المقربين لبوجميع، كما هو صديق مقرب لعمر السيد. فبوجميع والأصبهاني توطدت علاقتهما أثناء لقائهما في مسرحية الحراز. إذ منذ تصويرها تقوت تلك العلاقة وهما شابان مغموران، تجمعهما قهوة «با محمد» القريبة من المسرح البلدي لتقاسم أكلة شعبية، وبعد ظهور الغيوان وجيلالة كان مولاي الطاهر، كما باقي أعضاء فرقته يطلع بوجميع على كل جديد أو مشروع فني ستقوم به جيلالة حتى أنه أحيانا، كان يحضر تمارين الفرقة..
عانى مولاي الطاهر كثيرا. لكن في صمت لم يكن يركن إلى التشكي، فأحيانا كانت آلة خياطة السيدة فتيحة هي معيلة البيت، وفي أحايين كثيرة كان يلجأ لسياقة الطاكسي لكسب قوت الأبناء، ومع ذلك لم يسبق له أن أخبر أحدا بضره وضيق ذات يده، بل تراه دائم الابتسام والمرح، وكأن الأمور عادية، بل إنه مرة، وأمام الضيق، ستستغله إحدى الشركات الكبرى المختصة في الاتصالات، وهي تنظم معرضا لها بالدارالبيضاء. لم تراع أنه فنان كبير أو أن بفضله وفضل أصدقائه يشع اعتزازنا بالجذور والتراث، ألبسوه كسوة دب «موسكوت»، وطلبوا منه استقبال الزوار في باب من أبواب المعرض، مقابل 300 درهم. اشتغل مع هؤلاء أياما، وفي إحدى المرات ستلج زوجته فتيحة وابنته غيثة المعرض لتفقد ما تعرضه الشركة للزبناء، وهما لا تعلمان شيئا. ولما رأهما حاول أن يتوارى، لكن فتيحة أصرت على الاقتراب منه، محاولة أن لا تفهم ابنتها الصغرى شيئا «ياك آمولاي الطاهر؟»، بمعنى هل وصل بك الحال إلى هذه الدرجة؟ فكان جواب مولاي عفويا صادقا كما هو طبعه «هادشي للي عطا لله».. بعد مدة ستسترجع جيلالة عافيتها وتنطلق الأعمال من جديد، قبل أن يستفيد من التفاتة ملكية ستوفر للعائلة أجرة شهرية لتعود العائلة لاستقرارها، وهي الالتفاتة الملكية التي لم تتوقف، فمولاي الطاهر عندما أصابه المرض كان يتلقى العلاج على نفقة القصر.
وداعا مولاي الطاهر أكيد أن «عيني تجري بدموع»، لكني أعرف أنك لست ميالا للأحزان والبكاء. لذلك أقول لك «شكرا لأنك علمتني الكثير، وسعدت كثيرا برفقتك ومرافقتك، واستمتعت بصوتك وجلساتك».
رحم الله مولاي الطاهر