الجمعة الأسود

248٬341
  • صالح لبريني (°)
(1)
اتضّح بالملموس بأن الكوارث الطبيعية تكشف عن حقيقة الواقع، وتبرز الوجه الآخر لمنجزات الدولة على الأرض، كما تفضح حقيقة الشعارات البرّاقة والتي تطوي زيفها وادّعاءات المسؤولين الذين يتبجّحون بخطابات لا تمتّ بصلة لما تعرفه غالبية المناطق في المغرب الممتد من البحر المتوسط شماله إلى الصحراء جنوبا، ومن المغرب الشرقي إلى بحر الظلمات غرباً، من النسيان والإقصاء، وكأنها خارج اهتمامات الحكومات المتعاقبة على تدبير شؤون الدولة.
بل يمكن التأكيد أن المغرب العميق يعيش عزلة قاسية سببها الرئيس أنها غير موجودة في أجندات أهل السياسة الذين لا رؤية ولا تصور لهم في تنزيل المشاريع ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي في مناطق المغرب المنسي والمهمل والمهمّش.
وما زلزال الجمعة الماضي إلا صرخة في وجه اللامبالاة التي تنهجها هذه الحكومات التي لم يجن من سياساتها البعيدة كلّ البعد عن هموم ومشاكل وقضايا المجتمع المغربي، وتحديدا مغرب البسطاء والفقراء والمنكوبين مذ وجدوا أنفسهم على هذه الأرض التي حملوا السلاح بوطنية نادرة للدفاع عنها والحفاظ على وحدة الوطن من طنجة إلى الكويرة، لكن لم تنصفهم لا الدولة ولا الحكومات، ليظل خارج التاريخ والتمدّن، ليشكل حزاما للقهر والفقر، للمحنة الوجودية.
(2)
أعتقد أن زلزال شتنبر 2023 قدّم درساً بليغا للمغاربة قاطبة، يتمثل في أنّ التسلط والاستبداد الطبقيين لن يخدم المغرب تنمية وتطورا وتقدما، ولن يكون السبيل الوحيد للتحكم في العباد والبلاد، كما أنّه عرى سوأة المسؤولين وكذبهم وزيف شعاراتهم، ومنح الفرصة للشعب المغربي كي يعيد الحياة المغربية بقيمها الأصيلة، وأخلاقها الرفيعة، ونبل مبادراتها الكفيلة بعودة الروح إلى قلوب الناس.
وما هذا التضامن العارم الذي جسده ويجسده المغاربة إلا صيحة في وجه فشل هذه الحكومات لسنّها سياسة النعامة وكولوا العام زين، والتغطية على البؤس المغربي بالمهرجانات التي تُبذّر فيها الملايير باسم فرح المغاربة، بقدر ماهي إلا طريقة فاشلة لتلهية الناس عن القضايا الجوهرية الاجتماعية والاقتصادية، وتشجيع الزوايا بإغداق المال عليها باسم الحفاظ على دين الله، هي تجليات لغياب مشروع مجتمعي بإمكانه إنقاذ المغرب من هذا الوضع المأزوم.
إن نهج هذه الطرق الملتوية من لدن الحكومات في التدبير والتفكير والتخطيط عكس آمال وتطلعات الشعب المغربي ماهي إلا تكريس للتخلف والجهل والأمية، وما يعرفه المجتمع من ظواهر اجتماعية كالانتشار المرعب والمهول لأحزمة الفقر، وتفشي أمراض اجتماعية أخرى تؤكد بالملموس أزمة الدولة والحكومات في التدبير المحكم والمعلن والمقنن.
(3)
زلزال الجمعة الذي لم يدم سوى ثوانٍ معدودة قال كلمة الفصل بين التنمية الحقيقية وشعاراتها المغيبة من أرض الواقع، بين الواقع وادّعاءات الحكومات وزيف خطابها المأزوم، الفاقد للمشروعية، وما عشناه في تلك الليلة الاستثنائية من الزمن المغربي، من خلال الخراب والدمار وانهيار المنازل على ساكنيها والارتفاع المهول للضحايا في غياب تامّ للحكومة الحالية يعكس غياب منظور عقلاني في التسيير والتدبير، يعطي إشارات هامة على أن المغرب بعيد كل البعد عن التنمية التي ينتظرها المغاربة في المغرب العميق.
دعونا من التركيز على المغرب النافع من خلال مبادرات لجعل بعض المناطق تعرف حركية ودينامية على مستوى البنيات التحتية، لكن هذا لا يعفي من التأكيد على أن الدولة لم تستطع أن تطرح مشروعا تنمويا حقيقيا يشمل كافة مناطق المغرب الحبيب، وما نراه من حضور شعبي المتضامن والواقف إلى جانب إخوانه في المداشر البعيدة والأرياف المنسية بين الجبال يعطي صورة حقيقية على نبل المغاربة وتشبعهم بالقيم الإنسانية ذات المنبع الديني والوجودي.
وما يجري في القرى والمدن وفي كل بقاع الوطن من حملات جمع التبرعات والإعانات خير شاهد على شهامة الإنسان المغربي خصوصا الفقير، أما الأغنياء فلاأثر لهم ولا أحد منهم كان مبادرا حتى اللحظة، فهؤلاء لا يمتلكون الروح الوطنية ولا يتحلّون بالقيم الإنسانية، بقدر ما يسعون إلى تفقير الفقير وجعله أكثر يأسا، لكن الكارثة كشفت معدن المغربي الأصيل القح صاحب الأنفة والنخوة والأصالة.
(4)
زلزال الثامن من شتنبر 2023 منح صورة واضحة لشللية المجالس القروية والحضرية، وأن مدبّريها لا صلة تربطهم بالمواطن المغربي، بقدر ما تروم إلى ترسيخ وتكريس ثقافة اللامبالاة وغض الطرف عن المشاكل الحقيقية لهذا المواطن الذي يوجد بين مطرقة التسلط وسندان الفقر وانعدام امل لمعانقة شمس العدالة الاجتماعية والمجالية، غير أن المسؤولين يتركون الحبل على الغارب ويتغنون بأمور توجد في خيالهم، بينما واقع المغاربة مرّ وكارثي نتيجة السياسات اللاعدالية للحكومات الغارقة في الصراع حول الكعكة السياسوية، ضاربين عرض الحائط نداءات أمم القبائل النائية الرازحة تحت نير ظلم الجغرافيا ومكر التاريخ.
هذا الزلزال الكارثة كشف عن هشاشة المغرب العميق، وعن كونه بعيد كل البعد عن التحضر والتمدن، وما يصله من فتات يزيده جوعا ونسيانا هو عبارة عن ذر الرماد في العيون والضحك على الذقون.
(°) شاعر وناقد مغربي
 
error: