الفنان الأمازيغي محمد مغني يبعده اعتزاله عن مسيرة فنية طويلة لم تسلم من طاحونة سنوات الرصاص

162٬092
  • المكي أكنوز (°)
بعد أن أرسى حمو باليازيد أسس الغناء بالأطلس المتوسط، ولم تكسف بعده شمس الحركة الغنائية، بل ظلت ساطعة متوهجة بمغنيين وعازفين ملؤوا رحاب هذه البقاع الأطلسية أنغاما وألحانا وأسهموا في الدفع بهذا الفن قدما، ومن بين هذه الأسماء الفنان محمد مغني، الذي اعترف انني شعرت بالعجز، ليس في القلم أو البيان، بل لأن المعني بالأمر أقوى من أن أكتب عنه، لا يكفي أن نقول إنه هو معجزة الغناء في الأطلس المتوسط، إذ شبع مديحا وإطراء وتبجيلا لفنه العظيم طيلة سنوات اربت على خمسين عاما.
وباتت الموضوعية المجردة عن العواطف والعلمية المنزهة عن الهوى تحتم علينا أن نناول هذا الفنان الشامخ وفنه الباذخ بكثير من الدقة والتفصيل والتأني، لمنح نتائجها المرجوة لجيلنا الجديد الذي لم تسنح له الفرصة التعرف جيدا إلى هذا الهرم الفني ولجيلنا القديم أيضا الذي حكمته العواطف بدرجة كبيرة في التعلق الشديد بمعطياته الباهرة وإبداعا ته المتألقة التي لا حد لها ولا نهاية.
رأى محمد مغني النور سنة 1950، بخنيفرة، بقبيلة أيت بوحدو، دوار أمهروق، من والده موحى أومولود الذي تطوع في الجيش الجزائري وألحق بمنطقة” مغنية” إلى حين انتهت مهمته هناك، ليعود إلى مسقط رأسه بأيت بوحدو، فأخذ سكان القبيلة ينادونه ب”اومغنية”، ولما ولج محمد مغني المدرسة الابتدائية ب “تيدار إيزيان” خنيفرة عام 1957 اتخذ من لقب أبيه الاسم العائلي “محمد مغنية”، وبما أن “مغنية” اسم مؤنث تم تحويرها  إلى “مغني” فأصبح الاسم العائلي “مغني”، وهو اللقب الذي ليست له علاقة بالغناء كما يزعم البعض.
تربى محمد مغني في أحضان عمته التي كانت أثناء قيامها بعملية طحن الزرع”بالرحى”  تصدر أهات مكتومة تتنفس على شكل أشعار حزينة رثاء لأخيها، وليس أدل على هذه الكلمات الحارة من قولها
أَمَارْگْ أَمَارْگْ ذَاخْ إِنْغْ أَمِيسْ نْيُو أُوغَا ثْتْرَارَانْ إِگُوذَارْ وَلاَ ثِيفْلْوِين
أَسيدْنَا مُحْمَدْ أُورِكْيوطُ رَبِي ذِيمِينُو أَرْمْثَخْ أَلِيكْ أَوِيخْ سِي صْنَّالْ
أَمَارْگْ أَمَارْگْ ذَاخْ إِنْغْ أَمِيسْ نْيُو أُوغَا ثْتْرَارَانْ إِگُوذَارْ وَلاَ ثِيفْلْوِين
أَسِدْنَا مٰحْمْدْ أَيُورْثُو نٓيْلاَّنْ گُوبْرِيدْ أَنْجَذِي دِّدَٰانْ يَاغْ أَمَالُو
أَمَارْگْ أَمَارْگْ ذَاخْ إِنْغْ أَمِيسْ نْيُو أُوغَا ثْتْرَارَانْ إِگُوذَارْ وَلاَ ثِيفْلْوِين
أَيَّاوْمَا أَيَّا گْجيگْ نَاثْنِي ثَوْرْغِي أَبُوقْسْ نَا يْتْوگَانْ إِثْفَلاَ أُومْنَايْ
أَمَارْگْ أَمَارْگْ ذَاخْ إِنْغْ أَمِيسْ نْيُو أُوغَا ثْتْرَارَانْ إِگُوذَارْ وَلاَ ثِيفْلْوِين
واللَّهْ الْعْظِيمْ مُورْ ذِيگِي أُوولْ إِيلِي ذِيگِي الْحْيَّا
أَمَارْگْ أَمَارْگْ ذَاخْ إِنْغْ أَمِيسْ نْيُو أُوغَا ثْتْرَارَانْ إِگُوذَارْ وَلاَ ثِيفْلْوِين
أُوسَارْ يِٰيخْ أَلْحَّنِّي گْ وَامَانْ غَاسْ أَرْزَّازْ
أَمَارْگْ أَمَارْگْ ذَاخْ إِنْغْ أَمِيسْ نْيُو أُوغَا ثْتْرَارَانْ إِگُوذَارْ وَلاَ ثِيفْلْوِين
إِزِيلْ وَاضُو نْثْمَازِرْثِينُو مْكْ إِيكَاثْ
أَمَارْگْ أَمَارْگْ ذَاخْ إِنْغْ أَمِيسْ نْيُو أُوغَا ثْتْرَارَانْ إِگُوذَارْ وَلاَ ثِيفْلْوِين
إِيزِيلْ وَشَالْ نَاگْ إِيلُولْ يُونْ أَرْبِّي
أَمَارْگْ أَمَارْگْ ذَاخْ إِنْغْ أَمِيسْ نْيُو أُوغَا ثْتْرَارَانْ إِگُوذَارْ وَلاَ ثِيفْلْوِين
أَوَا يْذِيا رَبِّي طِيرْ يِّلِّي سْ رِّيشْ
أَمَارْگْ أَمَارْگْ ذَاخْ إِنْغْ أَمِيسْ نْيُو أُوغَا ثْتْرَارَانْ إِگُوذَارْ وَلاَ ثِيفْلْوِين
أَذِي سَارَا كْ ثْمِيزَارِينُو أُورِي تُوحيل
أَمَارْگْ أَمَارْگْ ذَاخْ إِنْغْ أَمِيسْ نْيُو أُوغَا ثْتْرَارَانْ إِگُوذَارْ وَلاَ ثِيفْلْوِين
إن ما تفصح عنه هذه الأشعار من الإيجاز البلاغي المؤثر والصدق الفني، يقف المرء أمامها  مشدوها، إذ هنا تتجسد أمامنا صورة صادقة لواقع المرأة التي تفتقد الصديق والقريب فليس ثمة أحد في هذا العالم يسمع أنينها وشكواه، هذا النوع من الإنشاد يسمى في الأطلس المتوسط ب”أهلل” ومن أهم الخصائص المعنوية التي تتميز بها أشعاره، بالأطلس المتوسط، إنها حزينة فهي تؤكد على طرح الهموم الشخصية ومجمل القضايا الحياتية التي تفكر بها المرأة، الحب، الموت، الفقر الخ.. وتختار المرأة بشكل لا شعوري من أساليب وأوزان الأغنية الشكل المتلائم مع حركة الطاحونة (الرحى اليدوية)، فهي انسيابية هادئة ترتل بهدوء منسجمة انسجاما تاما مع الصوت المنبعث من حركة دورانها حتى لتخاله جزءً من الإيقاع الموسيقي للأغنية، ولذلك فلم تتعدد أساليب (أهلل) فتشمل أشكالا أخرى غير الدرامي والنعي ويتميّز الدرامي بأنه المادة الخام لأغاني”الرحى”.
 ينبغي أن نشير إلى حقيقة واضحة في أشعار الطحن على” الرحى” وهي إنها تفتقر إلى الصيحات الإيقاعية والسبب في ذلك يرجع إلى أنها وجدت أصلا لقتل الملل والسأم في نفس المرأة العاملة مؤكدة على العنصر المتغير الذي يطرح جملة الإحباطات الفردية والظروف الخاصة.
 و تعلم محمد مغني أبجدية الغناء من عمته و ترسخت في وجدانه هذه الأشعار منذ صغره، و بدأت تظهر بوادر موهبته الغنائية في المدرسة وأخذ شيئا فشيئا يتخلى عن حذره ومخاوفه بل تشجع وبدأ يغني بعد انصراف المعلم، وتجمع حوله التلاميذ مذهولين وكأنما اكتشفوا اكتشافا خطيرا. هذا الطفل النحيل الصامت الذي استهانوا به في أول الأمر يمتلك مثل هذا الصوت الساحر؟.
ومن ذلك الْيوم أخذوا يتقربون من الفنان محمد مغني، ويتوددون إليه، وبدأ هو يشعر بأهميته وسط زملائه و أصبح طبيعيا أن يطلبوا منه أن يغني لهم بعد انصراف المعلم مباشرة، و أصبح هو كثير الحركة لا يهدأ، تحسبه يحتبس طاقة تبحث عن منفذ. إن جلس إلى طاولة فإنه لا يهدأ أو يفسح مجالا للهدوء، تسمعه يدندن بصوته، ويدندن، تراه ينقر سطح الطاولة بأصابع يديه بحيوية، التي تظل تتراقص في الهواء، كأنها تنادي الأوتار،. ولَم يعد صوت محمد مغني، الموهوب يتردد فقط بين جدران المدرسة بل أصبح يتردد كثيرا وسط الحي الذي كان يقطنه. وبدأت شهرته تتجاوز حدود الحي.
 غادر محمد مغني الدراسة مبكرا، منذ سنة 1963، عندما حصل على الشهادة الابتدائية، ليشتغل بإحدى المصالح التابعة لوزارة الأشغال العمومية بخنيفرة لمدة سنتين، إلى غاية سنة 1965، ليغادر عمله  نهائيا  ويلتحق بأبيه الذي كان يشتغل بإحدى التعاونيات الفلاحية. وفي هذه المرحلة بدأت هوايته للموسيقى والغناء تكبر وتتبلور مع الأيام، كان يختلي فيها بنفسه، صحبة مذياع (راديو) صغير رقم (8)، و ينتظر قدوم الصوت السحري للفنان حمو باليازيد الذي كان يستهويه ويتلقف ما يسمعه من أغاني الرواد وكذلك من أغاني الأفلام الاستعراضية التي كانت تعرضها آنذاك سينما “زيان”، بخنيفرة، إبان الستينيات، لأنه كان شديد الإعجاب بآلة الناي وكان مدمنا على سماع أنغامها التي كانت تتيح له إشباع نهمه الموسيقي، فكان يحفظ كل شيء، دون أن يدرك بأن ما يحفظه من أغان شائعة هي المفاتيح التي ستقوده إلى المجد الذي كان لا يفكر فيه قدر تفكيره في أن يغدو ذات يوم فنان بعاصمة زيان خنيفرة.
فكانت بدايته الفنية بالعزف على آلة الناي التي كان يستخرج منها أنغام تنفذ إلى وجدان المستمع، ولكن كانت تشكل له عائقا، بالعزف والغناء في وقت واحد مما جعله يبحث عن آلة أخرى، وفي عام 1967 سيلتقي بصديق الدراسة المسمى “مولاي أحمد يعيش” ليفكرا معا في صناعة آلة “الوتار” وهو ما تأتى لهم. ولكن فرحتهما لم تدم طويلا لأن محمد مغني ذهب لزيارة الفنانة “إيطو حساين” ليعرض عليها آلته الوترية الجديدة التي قام بصنعها مع رفيقه، لتبدي رأيها في صنعها، ولكن زوج هذه الأخيرة، المسمى علال، دخل على غفلة فوجدها تحتضنها بشغف و تصدر أنغاما من صهيل الأوتار الجامحة وحنين الأخشاب المعتقة، حيث فقد الزوج علال صوابه فكسر الآلة.
ولا بأس أن أتوقف قليلا عند هذه القامة الفنية “ايطو حساين”، فهي من موالد عام 1921 بقرية سيدي احسين كهف النسور بخنيفرة، من والدها محمد أعراب ووالدتها حادة، عاشت بين أحضان عمتها المسماة رابحة نزي مع زوجها المسمى حسن اوشن من أعوان الباشا حمو. وكانت لها عدة تسجيلات بدار الإذاعة الوطنية في بداية الستينيات من القرن الماضي، وكانت الفنانة إيطو حساين شخصية معروفة محليا، وتعزف جيدا على الآلة” لوتار”، كما تحدده الذاكرة الشفهية التي أضفت عليها بعدا أسطوريا وفنيا، و من خلال بعض الحكايات الممزوجة بروح الفكاهة، كتلك التي تقول: إنها تحمل آلتها في حلها وترحالها، وتخرجها من كم قميصها للعزف عليها، كما يروى أيضا أنها كانت تعزف عليها  وهي تضعها خلف رأسها، وهي شخصية التي تستحضرها الذاكرة الشفاهية عند الحديث عن سيرة الرواد الذين عرف عنهم أنهم كانوا يعزفون على آلة الوتار بمدينة خنيفرة، وكانت أيضا بجانب محمد رويشة أثناء تسجيل قطعته المشهورة “بيبيوسغوي” التي افتتح بها مساره الفني بدار الإذاعة الوطنية عام 1964.
وفي آخر أيامها، استبد بهذه الفنانة العوز والمرض، وافترسها التجاهل واللامبالاة لتختزل حياتها الحافلة بالعطاء في مساحة جدرانها البئيسة “بثيدار إزيان”، وظلت محاصرة بالوحدة بعد انطفاء أضواء الشهرة، وحين صمتت ميكروفونات كانت تمنحها الحياة في لحظات من الأوقات، إنه واقع يندى له الجبين، واقع مرير لوطن لازال يحن الى فروع شوك السدرة  ويتوقف الى تعليقها على قبور من رحل من رواد الفن الأمازيغي بالأطلس المتوسط، بعدما كانوا في حياتهم نسيا منسيا.  وقد رحلت عنا الفنانة “إيطو حساين” عام 1987  لتدخل عالم الخلود.
و تعد قضية عزف النساء على آلة الوتار بالأطلس المتوسط من القضايا التي يصعب تناولها، فالنساء لا يعزفن في العلن مطلقا، وهذا لا يعني أن عزف النساء كان غائبا كليا في الأطلس المتوسط وماتزال بعض التسجيلات للفنانات مثل “إيزة وبغوظ” من قرية القصيبة، وبعضها ما يزال محتفظا به بأرشيف الإذاعة الوطنية.
بدأ الفنان محمد مغني يدق على باب الطرب والغناء، وكانت هناك قمم فنية أمثال : حمو باليازيد الذي كان سيد الغناء والعزف، موحا اوموزون، موحا اوبابا، بناصر أوخويا، بالغازي بناصر العريق بفنون الطرب، ابشار البشير، عائشة تغزافت التي تملأ دنيا الناس طربا، ميمون اوتوهان، الروداني الشرقي، مولود أو الباشير، الباز بناصر، بوزكري عمران، مصطفى نعينيعة، أحمد صالح الملقب” بالويسكي”، مولاي بوشتى الخمار، محجوب زعريط، إلى جانب فرسان آخرين. والحق أن محمد مغني كان يحترم أسلافه الكبار، ومن غنى عطاءاتهم ودأب على غناء قطع هؤلاء المشاهير.
وأخذ محمد مغني يتحسس طريقه في خنيفرة المزدحمة والمتخمة بالعازفين والمغنين والمغنيات.  وتدفق بدوره إبداعه في كل ضروب الأغنية الأمازيغية، دون أن يخرج على قوالبها الفنية . والتف الناس حوله وتجمعوا ليسمعوا هذه النبرة الجديدة، صحيح كان شارع الغناء مزدحما، ولكن فناننا استوقف الشارع بصوته الحنون ودخل إلى الآذان ممتطيا حصان الرقة والعذوبة، فاشتد شوقهم إليه أكثر حين كانت آذان الناس تتعطش إلى شيء آخر خال من الزفرات، فجاء محمد مغني، ليسكن الوجدان بصوته ويرفع من معنى العشق النبيل!
و لقد ساعده هذا على ذيوع اسمه وانتشاره في الأوساط الفنية وغير الفنية، واشتهر كمغني أكثر من اشتهاره كعازف على آلِة الوتار، وإن علمنا أن الأغاني في تلك الفترة الزمنية كانت تضفي الشهرة والمجد على المغني.
وفِي سنة 1970 دخل محمد مغني عالم الاحتراف فاتحا مشواره الغنائي بعدة قطع منها :
  • – أَيـذْنِيخْ أَكِذَافْخْ نْمُونْ رُوخْثْنْ عَاوْذْخْ أُورِيگِينْ وَالُو ،
  • *رْحْلْ أَتِيثْ أٓعـزَابْ أَوْرَا غـرْ ثَامانو
  • رَحْلْخْ إِرْحـلْ أُومَارْگْ أَرِيتَباعْ
  • * ثَحْيُوطْ أَمُونُودْمْ شُوفْ لاَّلام إُورِينَّام . وغيرها من القطع.
و يعتبر محمد مغني هو السباق في عزف تحيدوست على آلة الوتار، كما عزفها من قبله المرحوم حمو باليازيد على آلة الكمان”التي تقول كلماتها:
  • أَمَامَانُو لَيْطَّارْ الْخَاظْرْ خْفْ إِسْلِّي مْكْ ثيذْيُىفَا أَوَا
  • أَمَامَانُو يُوعَاسْنَّا ثَاگَايْثْ نَاخْفْ يَّادُّومْ إزْرِيرِي أَوَا
هي تسجيلات نبهتنا لصوت محمد مغني، فجاءت كلها في شكل رسائل عن الحب الصادق، وعن معاناة الفراق، وكذا عن العشق المباح الذي يخاطب العقل والإحساس قبل الغريزة والشهوة، و لم يقف منبهرا أمام ألوان وأضواء الفن الهابط الذي تربع دعاته على عقول الكثيرين من شباب اليوم، لكنه رسم لنفسه الطريق السهل الممتنع الذي يقوم على الحاجة للغناء وللطرب والهدوء والسكينة لا للغريزة والتمايل على ايقاعات الكلمات الساقطة التي تخدش حياء الأفراد والجماعات.
سيعرف محمد مغني مجدا فنيا في سنوات السبعينات، أصبح كالبلبل المغرد فوق شجرة الغناء بالأطلس المتوسط، وبنفوذ صوته الأخاذ كان يطارد النشاز لينتصر للجمال ويسكبه في أسماعنا، فننتشي. ولكن لم يطل الانتشاء، لقد حلت لعنة سنوات الرصاص لتنقض على محمد مغني ورفاقه (الفنان أعشوش لحسن، عائشة تغزافت، بوياوي قدور، حساين بومية، اومارش فاطمة و زينب أوخثا)، ذلك لما انخرطوا بعفوية وتلقائية في التعبير عن أحداث السبعينات. رثاء لمن حكم عليهم آنذاك بالإعدام، فأخرستهم أيدي الجلادين، وهنا نستحضر الأغنية التي جرت الويلات عليهم وقادتهم إلى جحيم التعذيب التي تقول كلماتها:
إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ
 إِمُٰوثْ حـْمُّو أُور يِيوْيظْ وَگَا امَازِيرْ
إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ
 مُرَاسْ ضورْ إمحِزَّان إِنْضلْ أَمَّاسْ أُورُگُو
إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ
 لَتْرُوثْ أَصْفـرُو إِدْخْ إِمُّوثْ أَعْبَابُو   
إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ
 مَانِي القْوَانْسْ مَانِي لْعْسَّا نَاسِي إِيضُورْ
إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ(…)
 وفِي هذه الفترة العصيبة أصبح الغناء محظورا في الأطلس المتوسط حتى قيل أيضا:
مسارْ نِّيخْ إيِزْلاَن أَرْبِي جْمْعِي ذُوروَاسْ  
إِسْ أَنِّيخْ أَغْرِي نَّاثْشَا عيشا ذُو عْشُوشْ
مفاده أن الأمازيغي حرم على نفسه قول الشعر والغناء لأنه رأى بأم عينيه الجحيم الذي مر به كل من أعشوش وعيشة.
إن قطعة “إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ” التي عشقها الكل ذات لحن حزين، فهي للفنان المرحوم شيخ حافتي محمد التي سجلت بدار الإذاعة، صحبة الفنانة عائشة تغزافت، في سنوات الستينيات من القرن الماضي، ولكن محمد مغني أعاد غنائها في تماه تام مع كلمات (إيزلان) جديدة حملت ألما عميقا. برع  في أدائها. هذه الأغنية ليست جيدة فقط لأن محمد مغني اشتهر بها إبان سنوات الرصاص، بل لأنه غناها بروحه الحزينة، وقد قال بنفسه عنها:” إِذْ إِيمَانُو أَيْنَّا غُورِي دْيِّوِينْ أَزَالْ” أصبحت مورطا فيها، فعندما أخرج لأي حفل أو سهرة إلا وتطلب مني هذه الأغنية”.
أما صديقه محمد رويشة فقد اعتبرها “نعمة ونقمة، لأنها فرضته كمغني أمازيغي مناضل”. فقرر محمد مغني اعتزال الفن، غير أن محبيه لم يتركوه وحده في هذه المِحنة التي كادت أن تقضي عليه وعلى مسيرته الفنية. وكان خير دفاع هو الاستمرارية بدون مبالاة، وبفضل صموده وقوة إيمانه ووفاء أنصاره، سار قدما في عمله لاستيفاء رسالته. فواصل بتقديم الجديد، ويحسن القديم فيعرضه في ثوب جديد بالتنقيح بما يضفي عليه ألوانا من الجدة والإبداع، لو نحط الرحال عند كل أغنية خطتها تجربته وداعبتها انامله على توأمه آلة الوتار، فإننا نجد لكل رائعة من روائعه رسالة هادفة، سواء من أسى الحب أو لوعة الفراق، وحرقة الغربة، وجميعها دعوة إلى تهذيب النفس والبعد عن كل ما يدنس النفس من القول والفعل.
 كان محمد مغني في أدائه الغنائي “وكأنه في لحظة عبادة”، لأنه يتمتع بموهبة الحضور، سواء في الحفلات والسهرات، تلك الموهبة التي تجعل المرء إنسانا جذابا، تتقبله النفس بترحيب و ارتياح ، ببراءته وعذوبة ابتسامته، ولا نغفل أيضا الصوت النسائي الذي رافقه آنذاك، إنها الفنانة فاطمة توسيدانت التي  يصغي إليها الجمهور فيزيد نشوة وطربا، إذ بعد اعتزالها للغناء، أخذ محمد مغني يبحث عن صوت آخر، إلا أن وجد الفنانة “الشريفة كرسيت”، وهي من مواليد عام 1967، بخنيفرة، بأيت علا، ايت لحسن اوسعيد، وصاحبة الصوت الشجي الذي يدخل إلى شغاف القلب دون استئذان، فنانة مرهفة الإحساس، رقيقة المشاعر غزيرة العطاء دون اسفاف أو ابتذال، أغانيها يترنم بها الناس من شتى الفئات العمرية، لأنها فنانة ناجحة وبليغة في الأداء وتعطي الأغنية مكانتها الفنية، كما هي قدمت أجمل وأكبر الأعمال الفنية بثقة واقتدار فني، إنها  لم تستخدم أنوثتها ولا رصيدها الجمالي للوصول، ولكنها اعتمدت على طاقتها الفنية القوية، ولا أحد ينكر مقدمته صحبة محمد مغني، ومحمد رويشة، لا ينكره الا جاحد او حاسد، محمد مغني وجد البعد الثاني في فنه عند “الشريفة”، وسكب أعذب وأهم ألحانه، وقد اتضح ذلك من خلال القطع التي أطلقها محمد  صحبتها منها :
  عداني عداني، *أَيَاًحْبِيبْ أوِينْ ثَاسَانُو* أُورَاسْ نْغي أُوْمَاگْ * أٓذُورْتنيث ْإِسْكْ عْفَاخْ، *أَنْمُونْ سينْ،* أَشْنَاذاخْ، *مَاسيِّيخ ْإِوولْ أَذِ عْنيقْ، *إِحوفدْ غِيفي أومارگْ، *مَامِي قَارْخْ وَلاَيغْرِي،مايذِي تْرَارَانْ نْعَامْ، *سَالْ سَالْ، *بَلْغَاسْ إِوْحْبِيبِنو السْلاَمْ، وغيرها من القطع، ولكن الأغنية الأكثر انتشارا، هي قطعة ” عْدَّانِي عْدَّانِي” لأنها كانت تتوأم تماما مع طبيعة صوته وإمكاناته، وتتدفق  منه في شحنة عاطفية قوية، مكونة من مشاعر ترمي إلى التعبير عن التطريب، ونجح الشريط نجاحا كبيرا. وصارت حديث الساعة، لأنها كانت آية في الإبداع موضوعا وكلمات ولحنا وأداء، وذهب أهل الصنعة في هذا الإنتاج الجديد، وصاروا يبحثون عما يعيدون به حساباتهم في مستقبل الأغنية الأمازيغية. ويكون من الإنصاف أن هذا التكامل بين الكلمة واللحن والأداء الموسيقي والبوح الصوتي هو ما جعل أغنية “عْدَّانِي عْدَّانِي”، عملا متفردا.
 أتوقف قليلا، مستحضرا شريط ذكرياتي في استوديوهات التسجيل مع شركة الإنتاج الفني، وسنوات الشباب مع الأخوين قمار، صوت خنيفرة، صوت البساتين، أفراح فاس، وأخيرا شركة الفاسيفون، تلك الخطوة التي حفزتني لملاحقة النجوم والمشاهير لأسبر أغوارهم وأحصل على الكثير من أسرارهم، فتولدت الصداقة وقويت جسور المودة والثقة ووجدت نفسي قريبا إلى أقصى حد من الكثير منهم، وكانت معرفتي بالفنان محمد مغني وطيدة وقديمة، كانت تتجدد من يوم وآخر، فإن لم تكن الظروف تسمح باللقاء الدائم بيننا، فقد كانت أغانيه التي تنطلق من الأشرطة، هي اللقاء العفوي بينه وبيني!
وسوف أتوقف عند محطة هامة في استوديو الفنان الكبير الاستاذ يونس ميگري، بمدينة الرباط، أثناء تسجيل قطعة “عداني عداني” بمشاركة كل من الشريفة و الفنان ميمون أورحو والفنان عبد العزيز أحوزار في بداية مشواره الفني كضابط إيقاع، كنت أنذاك المشرف الفني والتقني على هذا العمل، لحظت أثناء أداء الفنانة الشريفة للقطعة” عداني عداني” كأنها تغني لمحمد مغني فتطربه، ومحمد مغني يصغي إليها فيزيدها نشوة وطربا في تلك اللحظة شعرت أن صوتها يخرج من قلبها، بالفعل كان صوتها في أوج قوته، التقت فيه النبرة الصافية بالذبذبة المرنة بالأداء الأنيق، تغني بكل صدق وعمق، بكافة الأحاسيس والمشاعر،
 ويعد صوت الشريفة من الأصوات الحساسة، المرهفة، المعبرة،…إنها متعددة المقامات، واسعة المساحات، إذا يمكن القول بأن صوتها لا يقتحم الأذن فقط بل يتسلسل وينفذ إلى أعماق المستمع  بقدرتها الخلاقة على التعبير المؤثر عن شتى الانفعالات … اتجهت أيضا في أدائها، إلى ما يمكن أن نسميه بالأداء الهامس الصادق، وهذا النوع من الأداء ينسج علاقة حميمية، ذات بعد روحاني يتميز بالصفاء، بينها وبين المستمع الذي يشعر كأنه تغني له وحده، أو تبوح له بأسرارها وبمكنون قلبها… حتى أصبحت الفنانة الوديعة الشريفة، صادقة المشاعر، موهوبة، متفانية من أجل الأخرين وفِي سبيل فنها.
 وللشريفة عدة أعمال مشتركة مع عدة قامات فنية، منها  مع كل من الفنان ابروي علي أزلماظ، محمد مغني، و رحو المساوي، بعنوان” ثْزْرِيثِي أوُغَا تْگَاغْ الْهْمِّينُو”. و لقي هذا العمل اقبالا من الجمهور ولقد أشرفنا عليه أثناء تسجيله بأستوديو الحيمر بوعزة بمدينة الدار البيضاء الذي يعد من أقدم الاستوديوهات بالمغرب. و هذا العمل فتح شهية الشركات الإنتاج الفني لإستقطاب محمد مغني، لأن صوته يعطي للكلمات والأشعار شهادة الميلاد عند الجمهور. لأن أغانيه لقد أصبحت جزءً لا يتجزأ من الوجدان.
إن صوت محمد مغني، فيه كل المواصفات الفنية. له القدرة أن يغني طويلا، بدون أن يشعر المستمع بأنه ضعف عما بدأ به، بل العكس تحس بان صوته دكتاتور له سلطة، وفيه قدرة ومقدرة صوت صاحب نفوذ. صوت فيه الإعجاز والمقدرة وهذا يجعل المستمع يشعر بشعور الإعجاب، وكل من يريد أن يعرف كيف تكون قوة الصوت، وكيف تنطق الكلمة الأمازيغية بطريقة صحيحة وفصيحة، عليه أن ينصت إلى محمد مغن، الذي فات له أن حظي عام 1991 بأول تكريم من طرف “الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي”، عقب فعاليات “الملتقى الأول للأدب الأمازيغي”، بالدار البيضاء. كما حضي أيضا بتكريم من القناة الثانية 2M في برنامج “مسار” الذي يقدمه ذ. عتيق بن الشيگر. وحضر أيضا بجزيرة “كورسيكا” (مدينة ” باستيا” الفرنسية) لإحياء حفل تكريم لاعب كرة القدم المغربي “كريمو ميري”.
محمد مغني كان رجلا معتزا بنفسه، علاقته الشخصية تغلب عليها البساطة والتلقائية وعدم التكلف، وبط بينه وبين جمهوره جسرا من الألفة والمحبة دون قيود ولا تقاليد، فاكتسب الثقة والاحترام. لم يمد يوما يده لأحد، ولم يقبل المساعدة والعطف. وقد أنهكه المرض، ورحلته مع الآلام لم تنته، يتلوى من الآلام في الوقت الذي كانت فيه الرؤوس تتمايل من جمال روائعه، وكان اخر  إصدار له قبل الاعتزال سنة 2011  بعنوان “أَنْكِينْ إِيگْنْ أَنْكِينْ أُورِيفَفَانْ”.
ومهما أوتيت من بلاغة القول وفصاحة اللسان، فلن أستطيع أن أضيف شيئا إلى مجد محمد مغني، إن عبارتي الجميلة لن تطاول أداءه الجميل، وكلماتي الرنانة لن تنافس عزفه وصوته، ولا أظن أنه في حاجة إلى كلمات تمجيد أو تخليد، لأنه ببساطة استطاع أن يخلد نفسه بنفسه عن طريق فنه الذي أعطاه عصارة العمر ورحيق الأيام لقد كان يحترق، ليظل فنه مشتعلا في الدروب.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

(°) باحث في الفن الأمازيغي الأطلسي، صدر له مؤخرا كتاب “محمد رويشة: المرتجل العبقري”
error: