خنيفرة تحتضن ندوة حقوقية جهوية حول “فعلية الحقوق الثقافية” وسبل حماية وصيانة التراث والولوج إليه

203٬681
  • أحمد بيضي
تزامنا مع الذكرى ال 75 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يصادف 10 دجنبر من كل سنة، احتضنت مدينة خنيفرة، يوم 9 دجنبر 2023، ندوة جهوية من تنظيم “اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بجهة بني ملال خنيفرة”، حول “فعلية الحقوق الثقافية: حماية وصيانة التراث والولوج إليه، جهة بني ملال خنيفرة نموذجا”، وهي الدورة الثانية بعد الأولى التي نظمت ببني ملال، على مدى يومي 3 و4 دجنبر 2022، وتطرقت لمجموعة من التيمات (الأسس والمؤثرات الكبرى، الترسانة القانونية الوطنية، المخازن الجماعية، تقنيات الصناعات الحجرية القديمة، النقوش الصخرية، المواسم، الحكاية الشعبية، رقصة أحيدوس، اعبيدات الرما والعيطة).
الدورة الثانية من الندوة الجهوية التي تندرج في إطار استراتيجية المجلس الوطني لحقوق الإنسان المرتبطة بفعلية الحقوق، وجرى تنظيمها بقاعة الندوات والعروض ببلدية خنيفرة، بمشاركة 8 باحثين وجامعيين، تناولت نماذج مختارة (الطقوس المحلية، التراث الشعبي في الرواية المغربية، التراث في المناهج التعليمية، أدب المثل والحكاية في الثقافة الأمازيغية، أبعاد ورموز الزربية الزيانية، الحضرة أو الجدبة، التراث العبري، دور الإعلام في تثمين التراث..)، مع تحليل واقع التراث المادي وغير المادي بالجهة، والوقوف على خصائصه وغناه وعلى العراقيل والتحديات التي تواجهها مقابل المحافظة عليه وضمان سلامته واستمراريته والولوج إليه وتثمينه.
وافتُتحت الندوة بكلمة رئيس اللجنة، ذ. أحمد توفيق الزينبي، ذكر فيها ب “مصادقة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، خلال دورة سبتمبر 2019، على استراتيجية عمل تقوم على فعلية الحقوق الإنسان وعلى قيم الحرية والمساواة والعدالة والتضامن، وتقترح ستة مداخل وهي المشاركة والمساءلة وعدم التمييز والتمكين والمحافظة على البيئة والتربية”، مبرزا أن المجلس “قام بإثارة فعلية الحقوق الثقافية في أبعادها المتنوعة، وبتخصيص لها موقعا مركزيا في كل الآراء التي أنجزها، سواء بمناسبة تقديمه لملاحظاته وتوصياته للجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، أو بمناسبة تقديمه لملاحظاته وأولوياته الراهنة بشأن التصريح الحكومي”.
الجلسة الأولى، التي اختيرت لتيسيرها الفاعلة المدنية ذة. فاطمة أكنوز، افتتحت بمداخلة الباحث د. محمد ياسين، حول “الطقس المحلي والمعني، في أفق ثقافة محلية للتفاعل والتوازن الاجتماعي”، انطلق فيها من “حياة الإنسان المقترنة بعد طقوس تتخذ في أغلب الجماعات الإنسانية دلالات مستوحاة من عمق الممارسات الجماعية المحفزة على العيش المشترك، ومن النزوع إلى صياغة مساحات قابلة لاحتضان الشروط الضرورية لاستمرارية الحياة بكل ما يتطلبه ذلك من توازن في الروابط والعلاقات وسيولة في التفاعل المفضي إلى إقرار مفاهيم محددة للحق والعدل والمواساة”، حيث  تشكل الطقوس “أصولها الثقافية مقرونة بقيم تجعل الذات الفردية منصهرة في منوال جماعي متكافئ”.
ورأى المتدخل أن البعد الرمزي للطقس المحلي، في بعده الفلسفي والحقوقي، يؤكد على ضرورة الاهتمام بنسق الطقوس في الثقافة العربية، والأمازيغية بوجه خاص، وذلك “بالنظر إلى فرضيات و”حقائق” مستمدة من التاريخ والمعيش والرموز والتفاعل الإنساني”، فالتأكيد على المعنى، حسب المتدخل، يسمح ب “الغوص في العمق الأنثروبولوجي الذي يحرره من المقاربة السطحية التي تكترث فقط بالمرئي والمسموع وتغاضى عن سياقات خفية هي القاعدة المثلى لوجود الطقس واشتغاله، قاعدة يصير فيها المعنى هو حجر الزاوية في سيرورة ممتدة تكون فيها الطقوس عناوين لثقافة محلية قابلة – في جزء منها – للانصهار في الوطني والكوني متى توفرت شروط ذلك”.
وبعده تناول الباحث ذ. المصطفى فروقي “الأبعاد الثقافية والرمزية لزخارف ورموز الزربية بالأطلس المتوسط، الزربية الزيانية نموذجا”، قام فيها بتشخيص مادة الزربية كصناعة إبداعية تراثية، مع إبرازه التحولات التي عرفها مسار هذه الصناعة بالمغرب الأقصى، خلال بدايات فترة الاحتلال الفرنسي، والتدابير العملية والإجراءات القانونية التي هیأت لما عرف ب “متن الزربية المغربية” الذي أنجز على مراحل في عشرينيات القرن الماضي من طرف مصلحة الشؤون الأهلية، فيما تناول المتدخل بالتالي موقع زربية الأطلس المتوسط، الزيانية تحديدا، في هذا المتن، وصور من الحياة الاجتماعية والاقتصادية لمجال زيان من خلال الزربية كوثيقة قابلة للتأويل.
ولم يفت المتدخل الغوص عميقا في تفكيك هندسة الزربية انطلاقا من النسيج وعلاقته بالطقوس والثقافة الشعبية، ومن جرد الرسوم والزخارف والأشكال والخطوط والزوايا، وكذا الهوية والأصل من خلال طبيعة العلامات الغنية بألوانها وتسمياتها، مقابل وضع سؤال كبير حول “مدى إمكانية اعتماد الزربية كوثيقة للتعرف على مرحلة معينة من المراحل التاريخية؟”، فيما حرص أكثر على استعراض ما يميز النسيج الأمازيغي من أشكال موروثة، ومن حمولة إنسانية وانتربولوجية وسيميائية، واعتباره “جزء لا يتجزأ من الهوية المحلية والتراث الثقافي الأصيل الذي يقتضي حمايته وتثمينه”.
وبدوره شارك الباحث ذ. لحسن رهوان، بورقة حول “التراث العبري بجهة بني ملال خنيفرة”، سلط من خلالها الضوء على “مراحل استقبال بلاد زيان واحتضانها لطائفة عبرية ساهمت في إغناء تراث المنطقة على غرار جهات مختلفة من بلاد المغرب الذي تشبعت ساكنته بقيم التعايش والتسامح والتساكن مع مختلف الإثنيات والعناصر البشرية التي توافدت على البلاد عبر مختلف الفترات التاريخية”، حيث “يعود استقرار هذه الطائفة ببلاد زيان لعوامل ذات أبعاد مختلفة، استراتيجية مرتبطة بموقعها عبر المحور القوافلي فاس مراكش، وبغنى مواردها المائية والنباتية والحيوانية والمعدنية، وباقتصادها المرتبط بنمو مراكز ذات أنشطة وصنائع وحرف مرتبطة باهتمامات الطائفة المذكورة”.
وأكد المتدخل أن “تناوله للتراث العبري كمكون من مكونات التراث المغربي، لا تعوزه المصادر والكتابات والدراسات”، إذ أن “دراسة هذا التراث ببلاد زيان يطرح مشكل العوز المصدري والوثائقي”، لذلك فالورقة، يضيف المتدخل، هي “محاولة لتقديم إضاءات في هذا الإطار، اعتمادا على مصادر ودراسات وكتابات تاريخية على قلتها، مع الاستعانة بالطوبونيم العبري المنتشر بكثافة بالمنطقة، والرواية الشفهية وما تقدمه من معلومات مع الحرص ما أمكن على اعتماد الخلفيات المعرفية المرتبطة بهذا الموضوع”، مشيرا “للتواجد اليهودي بمناطق لا تقل عن بوزقور، مريرت، إغرم أوسار، آيت إسحاق، قلعة فازاز، آيت موسى بأم الربيع الخ”.
أما الطالب الباحث بجامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال، ذ. طارق معطاوي، فاختار المشاركة في الندوة بورقة حول “الحضرة أو الجدبة في الموروث الشعبي المغربي”، انطلق فيها من الحديث عن “الثقافة الشعبية، كحديث متجدد ومكانة رمزية في الذاكرة الشعبية”، و”كيف حافظت، بصورة أو بأخرى، على روح أصالتها وطابعها الشعبي”، قبل تفكيك المتدخل ل “مفهوم الحضرة كإشكالية تطرح نفسها في السياق الدلالي أو الوظيفي والثقافي والنفسي”، حيث “تعدد تعاريفها وتفرع دلالاتها ومصطلحاتها جعل منها إشكالية معرفية ابستمولوجية من خلال الممارسة الصوفية والدينية، ثم على مستوى الإحالات السيميائية على مستوى الطقوس الشعبية”.
وعن “أشكال التراث الشعبي في الرواية المغربية”، قام الطالب الباحث، ذ. إبراهيم البحراوي، في ورقته البحثية بمساءلة “أشكال ورود التراث الشعبي في الرواية المغربية، والبحث في تشكلاته وتداخلاته مع النص الإبداعي في الخطاب الروائي المغربي، خاصة داخل نصوص محلية أبت إلا أن تصور ما يحيط بها من عادات و تقاليد، وأعراف تنسج علاقات تشابكية داخل المجامع المغربي بصفة عامة، وداخل جهة بني ملال خنيفرة على وجه الخصوص”، من حيث أن “التراث يمارس موقفا احتجاجيا ورافضا للمسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية”، ولهذا “يتماهى صوت لغة الرواية مع صوت الفئة الاجتماعية المهمشة، حيث الرغبة في تعرية التناقضات”.
ومن هنا تحدث المتدخل عن الرمز والكتابة والخطاب الشعبي، فيما رأى أن “لغة الخطاب الروائي المغربي ظلت تتغنى بالتراث وتعمل وفق استراتيجية تصنع تداخلا بين المضامين والأشكال والرؤى”، مع تناوله في ورقته “نماذج روائية انطلقت من المجتمع المحلي لجهة بني ملال خنيفرة لتعلن في العالم السردي أشكالا ومعالم تراثية مغربية تمر في الخصوصية الثقافية المغربية”، وهي “نماذج تنطلق من تراث زيان، والقصيبة وبني ملال والفقيه بن صالح، وغيرها من مراكز الجهة، ولا تقل عن رواية “رياح الخطيئة” لعبد الكريم عباسي، ورواية “حين يزهر اللوز” لمحمد أبو العلا ورواية “عزوزة” لزهرة الرميج  وغيرها.
وفي الجلسة الثانية للندوة الجهوية، التي قام بتيسيرها عضو اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان، أحمد بيضي، فافتتحت بمداخلة الباحث ذ. لحسن زروال تحت عنوان “أدب المثل والحكاية في الثقافة الأمازيغية: قضايا التجنيس والدلالة والبنية والوظيفة التربوية”، انطلاقا من “اعتبار المثل والحكاية مجالين عابرين للاختصاصات، وتراث لغوي وثقافي، إنساني ووطني، كما هما جنسان أدبيان وخطابان يحوزان سلطة تعبر عن ممارسة لغوية وعن تجارب جماعية وثقافية واجتماعية، ورافدان من روافد الموروث الشفاهي الأمازيغي المغربي الذي تداولته الألسن والتقطته الأذان جيلا عن جيل فحافظت الذاكرة اللسانية على الكثير من هذا التراث حتى سلمته لذاكرة أقوى هي ذاكرة الكتابة”.
ووقف المتدخل أمام “الأهمية الكبرى لهذين الجنسين الأدبيين الشعبيين اللذين يعدان كنوزا ثقافية ترسم معالم الهوية المحلية والوطنية وتنفتح أيضا على المشترك الإنساني نظرا لتشابه وتماثل الوجود البشري وتقاسمه التجربة الإنسانية”، مع إبرازه طموح مساهمته إلى “التعريف بكل من الحكاية والمثل، ورصد خصائصهما المميزة وأصنافهما وما يجمعهما بأجناس أخرى مثل القصة والحكمة والقول المأثور”، فيما تطرق ل “زحف العولمة على الهويات المختلفة، ول “جملة من الأقوال والمأثورات التي تم تحويلها لحكم وأمثال”، فيما أشار ل “استراتيجية الدولة في ما يتعلق بحماية وصيانة التراث، وللمسؤولية المشتركة حول ما يهدد التراث من انقراض”.
وبعد ذلك تقدم الطالب الباحث، ذ. إسماعيل أمناي، بورقة تطرق فيها لموضوع “التراث المادي وغير المادي بين الاستثمار والتغييب في مناهج التعليم الابتدائي المغربي”، حيث انطلق من “مدى الانفتاح الكبير على ثقافة الآخر عبر الأنترنت وتأثير ذلك سلبا على مكتسبات الفرد التعليمية وهويته وثقافته الخاصة”، خصوصا “الأطفال الذين يعدون أكثر عرضة لهذا التأثير بالنظر لهشاشة ثقافتهم وحداثة ارتباطهم بتراثهم”، ولذلك، يضيف المتدخل، “تسعى السياسة التربوية الحديثة إلى ربط الناشئة بتراث بلدها وتحسيسها بأهميته، وكذلك ربطها من خلال تراثها بثقافتها وميراث آبائها وأجدادها، بُغية تعزيز الانتماء والهوية الثقافية الوطنية”.
كما تناول المتدخل “تتبع ومقاربة عملية استثمار وتضمين مكونات التراث المادي وغير المادي بالمملكة المغربية على مستوى المناهج التربوية للمرحلة الابتدائية من التعليم المدرسي، وأهم أليات استثماره وتوظيف التراث المغربي بهذه المناهج؟ ومدى التواصل الإيجابي الذي خلقته هذه الآليات للمتعلم مع تراث بلده المادي وغير المادي؟ وما سجلته تقارير المجلس الاقتصادي حول التراث، ودور الحكاية  ومكانتها في الثقافة الشعبية”، دون أن يفوته استعراض بعض الصور المصاحبة للتمرينات الدراسية المقدمة للمتعلمين، وبعض فنون الفرجة ومدى اهتمام المقررات الدراسية بها كجزء من الموروث الشعبي بغاية ربط المتعلم بالأنشطة الوطنية والهوية المغربية.
وعن “دور الإعلام في تثمين التراث المادي وغير المادي بالجهة”، حمل الإعلامي ذ. نورالدين ثلاج إلى أشغال الندوة ورقة هامة تناولت “أهمية التراث بصنفيه المادي وغير المادي لدى المجتمعات بصفة عامة والمغرب بصفة خاصة”، مستدلا بنموذج “جهة بني ملال خنيفرة الغنية بموروثها الثقافي الذي يشكل جزءً من هوية وتاريخ سكانها”، ومركزا على “عدة تقنيات وآليات، منها الإعلام الإلكتروني، الذي يشكل مرآة المجتمع ويسهم في تثمين هذا التراث والحفاظ عليه، وذلك بالرغم من انعدام إعلام ثقافي بالجهة لأسباب عديدة تجمع بين المادي والتقني والبشري وغياب التخصص في المجال، اعتبارا لما يحمله الإعلام من أنساق وأدوار لترسيخ التراث والنهوض به وتثمينه”.
وتميزت أشغال الندوة بنقاش مستفيض وتفاعل غني أثرى المداخلات العلمية وأفرز توصيات مهمة، منها أساسا “الدعوة لاعتماد استراتيجية جهوية، مؤطرة بمبادئ المشاركة والمساءلة وعدم التمييز، تنخرط فيها المؤسسات ذات الصلة والجماعات الترابية والجامعة والمجتمع المدني لحماية التراث المادي وغير المادي وتثمينه”، مع “تبني مقاربة شمولية في التعامل مع مختلف أنواع التراث المادي وغير المادي بالجهة” و”إيلاء عناية خاصة للأنواع المهددة بالانقراض والأخذ بعين الاعتبار للعدالة المجالية واللغوية”، فضلا عن الدعوة ل “الرفع من وثيرة تصنيف وترتيب المواقع التاريخية بجهة بني ملال خنيفرة وحمايتها من الضياع”.
ومن التوصيات الهامة التي نتجت عن النقاشات المتفاعلة مع المداخلات التي عرفتها أشغال الندوة الجهوية، الدعوة ل “اقتراح أنواع تراثية جهوية للاعتراف بها كتراث إنساني من طرف منظمة اليونسكو”، مقابل العمل على “تشجيع المبادرات الرامية إلى تثمين التراث واستثماره في الحياة المعيشة والممارسة اليومية لسكان الجهة وعدم الاقتصار على الدراسات والأبحاث”، و”تحليل الأمثال والحكايات والطقوس المحلية والحضرة واستنباط دلالاتها واستنطاق معانيها وتوثيقها وحمايتها من الضياع والاندثار”، والحرص بالتالي على “تثمين الزربية الزيانية وباقي منتوجات الصناعة التقليدية المحلية”.
وارتباطا بذلك، تميزت التوصيات بالدعوة ل “تعزيز إدماج مختلف مكونات التراث الجهوي في المناهج الدراسية واستثمار الجوانب المضيئة منه لتقريب المبادئ الأساسية التي تقوم عليها حقوق الإنسان والديمقراطية والعيش المشترك من التلاميذ والطلبة”، إلى جانب التشديد على “دعوة الإعلام الجهوي سواء المكتوب منه أو الإلكتروني أو التلفزي للمساهمة أكثر في التعريف بالتراث الجهوي والمساهمة في حمايته وتثمينه وذلك عبر إعداد ونشر ربورتاجات ومواد إعلامية”، وبعدها أجمع الحاضرون على قيمة ونجاح الندوة، مقابل دعوة المنظمين إلى التمهيد لمحطات علمية وثقافية أخرى تكون فرصا للنقاش والتحاور.  
error: