الحس الإيكولوجي في “وجع الجذور” للبشير الأزمي

346٬781
  • حميد ركاطة (°)
تعتبر رواية “وجع الجذور” ثاني عمل روائي للأديب البشير الأزمي، الذي كتب في أجناس أدبية متعددة، كالقصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً. وتأتي هذه الرواية في سياق طفرة إبداعية بمدن شمال المغرب، وبالتحديد مدينة تطوان، ويسعى الروائي من خلالها أن يكشف عن طبيعة الحياة بباديتها التي اتخذها فضاء لمعماره الروائي، إلى جانب جزء من مدينتها العتيقة.  وهذا ما يدفعنا لنتساءل عن الخلفيات الإبداعية والفنية التي كتبت بها هذه الرواية، وعن أهم القضايا التي طرحتها؟
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، ارتأينا أن نقدم مجموعة من الإضاءات، ونفتح مسارات الرواية على أفاق متعددة، من بينها، صورة المرأة، والتركيبة النفسية لسكان القرية، والصراع مع السلطة، ودلالة الحلم، ومواقف الشخصيات من المدينة، وتقنيات الكتابة، قبل مناقشة أطروحتها الرئيسية، ” التلوث” الذي تم التركيز عليه كموضوع إيكولوجي محض، وقطب الرحى في تنامي وتطور أحداث الرواية.
صورة المرأة في الرواية
لعل الكشف عن التركيبة النفسية لشخوص هذا العمل الابداعي سيمكننا لا محالة من الوقوف على مدى قدرة الروائي على اللجوء إلى إحداث مجموعة من التوازنات في تشييد معمار روايته، كي يطور وقائعها، ويؤزم أحداثها. وبالتالي يخلق التشويق والمتعة لدى القارئ.  فارتكازه على مقاربة النوع الاجتماعي، تم بتوظيف مجموعة من الوجوه النسائية التي شكلت سارية أساسية لعمله الروائي. كشخص: الجدة المهدية، والصافية (أم الفاعل الأساسي)، والسعدية وشامة زوجتي القدميري، بالإضافة إلى شخصيات أخرى كفاطمة الغمارية، زوجة عبد الرحمان، وسلوى حبيبة البطل، والحاجة زهرة جدة شامة، كما تمت الإشارة لنساء أخريات أثثن بعض الفضاءات كعاملات المصنع. إلى جانب نماذج من نساء منحرفات “كالعورة”، وقريبة البطل بالمدينة” والحاجة الربداء، وهي وجوه كشفت بشكل بارز عن الانحراف الاخلاقي وممارسة الدعارة.
الجدة المهدية
شكلت بالنسبة للبطل مرجعاً للاطمئنان النفسي والعاطفي، ولها ارتباط وثيق بالغيبيات والأولياء والصالحين. تم الكشف عن ذكرياتها وماضيها التليد، رفقة الجد، وتمكنت من خلال الحكي من سرد حكاية زواجها، والظروف القاسية التي عاشتها في طفولتها إبان سنوات الجوع، كعام “الصندوق، أو الليبرطا، أو البون”. وهي حسب السارد “مرآة تعكس الماضي”، وكانت تسر له باستمرار أن ذاكرتها  أرجوحة وهي “معلقة بخيوطها وخيوط القدر”. هكذا ستحكي عن مرض الجد، ” .. جدكم رحمه الله، طال مرضه.. لم يعد محافظا على قوته”. وستخوض بعد وفاته صراعاً مع ابنها العياشي من أجل الحفاظ على الأرض، وكذلك مع السلطة المحلية في شخص القائد، وأعوانه.
وحسب الراوي فوالده “لم يكن يرغب، من قبل، في الحديث إلى جدتي عن تواطؤ السلطة مع بعض الأعيان في سلب الأراضي. وكان يخفي عنها الخبر ” تثور في وجه كل فرد من أفراد الأسرة إذا ما أثار أمامها مسألة بيع الأرض” راحتي في مغادرة هذا البيت.. لم يعد مكاني بينكم.. تريدون طردي من بيتي وبيع أرضي..” لأنها آمنت بأن الأرض هي التي تمنح القيمة للإنسان. غير أنهم انتزعوا منها منزلها وأَرضها بالقوة في النهاية.
الصافية
في حين بدت الصافية من خلال أحداث الرواية شخصيةً مسالمةً، أفردت كل اهتمامها لأسرتها، ” اهتمامها بنا كان ينسيها، في الغالب، الاهتمام بذاتها… رضيت أن تكون زوجة وأما وخادمة.. رضيت بكل ذلك علها ترضى بعطف من أبي، وتشعر بامتنان منه”. غير أنها كانت تعاني في صمت، وهو الأمر الذي سينقله لنا الراوي” أمي تعيش لحظة معاناة أخرى، ستنسيها، ولو لفترة مؤقتة، المعاناة التي زرعتها العوراء وعشيرتها في قلبها. أمي تحمل على كتفيها ثقل المعاناة التي تتخبط فيها أسرتنا(….). وكانت تعيش معاناتها في صمت من جراء إهمال زوجها العياشي، وخياناته المستمرة لها، ومن جراء حقد حماتها الدفين “صمت أبي ينبئني أنها تكابد ألماً عميقاً يجتاحها. بين نارين تكتوي أمي، نار لسان جدتي الذي تحول إلى آلة تعطل برنامج التحكم في توقيفها، ونار خامدة لبركان فم أبي قادرة أن تنفجر في أية لحظة وتجرف كل ما تجده في طريقها.”، غير أنها ظلت محايدة في مواقفها، وسلبية تجاه مواقف زوجها، وكذلك حماتها، ولم تستطع أن تبدي رأيها بكل حرية إزاء بعض القضايا الحساسة.
السعدية
هي شخصية متمردة، وعنيدة، تعرضت لنكبة كبيرة عندما حاول والدها تزويجها  من القدميري، وهو جندي متقاعد، يكبرها سناً. ورغم اعتراض والدتها فقد تزوجته. وستكشف أحداث الرواية عن معاناتها الصامتة التي اشتركت في الكثير من أطوارها مع الصافية، وتقاسمت معها معاناة عدم الاهتمام من طرف الزوج. وهو أمر انتبه إليه بطل الرواية.” لم يكن الأمرُصعباً، سلوك أبي؛ الذي بدأت ألحظه من مدة غير قريبة، وسلوك القدميري، زوج السعدية، كانا السبب”، وقد” وقفت المرأتان عند ناصية المعاناة، وهما تتجرعان علقم الألم”. ويضيف الراوي أن وضع أمه كان أقل وطأة من وضع السعدية.” أمي بدأت تستأنس بوضعها الجديد. غياب أبي عن البيت لم يعد يجرح كرامتها.”
وستتأزم الحالة النفسية للسعدية كثيراً، رغم مؤازرة الصافية لها،” هو ذا قدرنا، وعلينا أن نصبر”، في حين كانت، هي، تردد جملة للتخفيف عن نفسها” حياتي مع سيدي احمد، كانت هادئة.. ومعاملته لي كانت طيبة..” ولم تتقبل أن يتزوج القدميري عليها ” أمن هو في مثل عمره يفكر في الزواج من طفلة في سن ابنته.. في الحقيقة، ثقل كبير عالق برقبة أمها وتريد التخلص منه”، وسيتأكد هذا الأمر، بعد رؤيته للسعدية وهي في حالة انهيار كبير عندما زارتهم ذات يوم” أرى السعدية تمسك رأسها بين يديها وتبكي”. ويقوم الراوي بالربط بين حديث الرجال في دكان الحلاق، وبين زيارة السعدية لبيتهم، وخمن” أن الأمر يتعلق برغبة القدميري في الزواج من شامة، وإلا لِمَ كان “المعلم” يتحدث عن زيارة القدميري، وعن عودة الشيخ إلى صباه”، وهو الطرح الذي تعلل به السعدية تغير سلوك زوجها “تغير سلوك القدميري من يوم حضرت الطفلة، أَهملني وَحَوَّلَ رغبته الجامحة صوبها.. أحس من وراء الجدران أنه يقترب منها، يقربها إليه يشدها بقوة، وبوادي نهديها يغرق، كما كان يفعل بي يوم كنت محافظة على شبابي ونضارتي.. القدميري لم يعد مهتماً بي، يقضي جل أوقاته في غرفة الطفلة، نادرا ما يخرج منها”. لقد عانت السعدية من حرمان مضاعف، ومن تنكر زوجها لأفضالها عليه. وهو ما جعلها تشعر بالدونية والتفاهة.
شامة
طفا اسم شامة على واجهة الأحداث، من خلال الأحاديث الجانبية لشخصيات الرواية الأخرى، التي تناوبت على سرد قصتها وكشفت عن العديد من التفاصيل الخاصة بسيرتها” ربتها جدتها.. وجاءت بها إلى القرية، كبرت في حضنها إلى أن أينعت. وقبلت.. أن تزوجها لزوجك.. لأن المرأة لا قدرة لها على إعالتها، وتخشى أن تسقط.. في فخ الدعارة..”
 وكانت المهدية معجبة بها ووصفتها بطفلة” ممشوقة القد، مستديرة الحوض..”، ودافعت عن سمعة جدتها الحاجة زهرة عندما حاولت السعدية تشويه صورتها، وأكدت لها بأنها ” قصدت الديار المقدسة..”
 ويرجع تعلق القدميري بشامة كونه يريد أن يحصل على خلف ذكر يرثه بعد موته وهي الذريعة التي تمسك بها وعلل بها رغبته حسب ما أكدته كذلك والدة الراوي” القدميري يريد الزواج من شامة، يحكي لكل من التقى به أنه يخشى أن تمتد يد الموت إليه، وهو لم ينعم بعد بمولود ذكر، قال يخشى على اسمه من الاندثار” وكذلك من خلال إخبار القدميري للعياشي في المقهى” يعرف أن السعدية ما عادت قادرة على تلبية رغباته الحميمية كما كانت تفعل من قبل، وما استطاعت أن تهبه مولوداً ذكراً يحفظ اسمه من الاندثار”.
ويبرز هذا الطرح من خلال تصرف سابق للقدميري إبان ولادة ابنته الثانية، لم تستطع السعدية إسعاد القدميري الذي سيهجر بيته بعد ولادة ابنته يامنة” لما صرخت يامنة، معلنة قدومها، اكفهر وجه القدميري من جديد، وأضحى قَلِقاً. غاب عن بيته ثلاثة أيام، كانت كافية لتبث الاشاعات كالفطر.. قال بعض الرجال إن القدميري هاجر إلى المدينة ولن يعود، هرب من السعدية والبنتين لأنه ضجر من بيت لا وجود فيه لذكر غيره”. فشامة كشخصية حفرت مكانها بقوة منذ طفولتها في ذاكرة كل أفراد القرية، ويعزز هذا الطرح شهادة البطل عن والده العياشي، يقول” أبي ينصت إلى القدميري وعقله يرسم صورة لشامة.
يسترجع لحظات عبرت بسرعة، وشامة تعبر أزقة ودروب القرية.. تنثر الفرح بين الناس. بشرتها البيضاء وشعرها المرسل على كتفيها، ووجه صبوح يبدد الوحشة والأحزان كشمس أشرقت لتبدد دهاليز الظلام الجاثم على قلوب شباب ورجال القرية”، كما أن القدميري تعلق بها بشكل مفاجئ “رمت قلبه فتاة ناضجة بسهام العشق. أسالت دماء الهوى وأغرقته في راماتها من رأسه إلى أخمص قدميه. أنساه السعدية ويامنة ومنانة.. لم يعد بصره يرى غير جزيرة بعيدة محصنة تقف على أرضها شامة”.
وهذا سيحول بيت القدميري إلى حلبة دائمة الصراع “صوت القدميري ترتج له جدران البيت. يذرع الرجل الفناء ذهابا وإيابا…. يتعمد.. الاقتراب من باب الغرفة الموارب ليوصل تهديداته للسعدية التي تحصنت داخلها، ولاذت وبناتها بخوف قاهر”، كما أن الجيران اتخذوا موقف الحياد من الموضوع.” لم يتجرأ أحد من الجيران على دخول منزل القدميري لمعرفة سبب غضبه وهيجانه.” باستثناء شخص أوربا الذي كانت له الجرأة لإبراز موقفه من قرار القدميري” عندما صاح في وجهه بحنق، “اتركوا الطفلة تستمتع بطفولتها.. الطفلة ليست مستعدة لمسؤوليتها الجديدة.. لم يكتمل بعد، نضجها والجسدي والذهني لتحمل هذه المسؤولية.. الطفلة ما زالت في حاجة إلى اللعب” واعتبر أن الزواج المبكر هو السبب الرئيسي لوفيات الفتيات دون سن الثامنة عشرة..  يتمزق مهبلهن.. هن في حاجة إلى الحنان”، في حين كان للعياشي موقفٌ آخر، من زواج القاصرات، وهو يعقب على موقف أوربا من زواج القاصرات” الحنان سيجدنه في بيوت أزواجهن، واللعب في فراشهم… ألست أنت من يقول السعادة كلها تنبع وتبدأ من السرير؟”
وقد تمكن القدميري من الزواج من شامة في النهاية، واضطرت السعدية في النهاية إلى أن تحضر المناسبة  مكرهة رفقة ابنتيها، بعدما أقنعتها زهرة، دون أن تشارك في الطقوس” السعدية ظلت قاعدة وإلى جانبها بنتاها، لم يشاركن في الغناء والمديح، ولم تبد على ملامحهن آلاء الفرح”
بعد أشهر من الزواج بدأ صراع القدميري وشامة، من خلال تغير سلوكها وتصرفها  المشين معه،” بدأت شامة تصرخ في وجهه، فقدت عقلها وأنشبت أظافرها في وجهه.. فجلدها وسبب لها جروحاً غائرة، سقطت نقط دم على ثوبها”، وهو ما دفعها لقتله في النهاية” وضعت شامة العقرب في سرير السعدية. من حسن حظها، ومن سوء حظ القدميري أن السعدية كانت والبنتان في زيارة زهرة… بعد فترة أحس بوخزة في رجله، لم يعرها اهتماماً أول الأمر. كانت الوخزة لدغة عقرب”
فاطمة الغمارية
هي زوجة عبد الرحمن، تم ذكر اسمها، من خلال الإشارة إلى زيارتها لبيت الراوي “زارتنا فاطمة الغمارية، زوجة عبد الرحمن… سألت أمي فاطمة الغمارية عن الحالة الصحية لابنتها” ربيعة” بدأت المرأة تنشج. حديثها كان مُطَعَّماً بأنين المعاناة التي خلفها غياب زوجها”، وكذلك من خلال الإشارة إلى موت ابنتها ربيعة” بعد أسبوع من زيارة أمها لنا امتدت يد ملك الموت إليها واقتطفتها”. وهي شخصية ستتقاسم مع أم الراوي معاناة الفقد.
سلوى
شخصية هادئة الطباع، تعرف عليها البطل خلال دراسته بالجامعة، وسعت أن يحول حياتها إلى حلم لذيذ، كانت تلاطفه بتودد، وتطمح أن يروي” قلبها عشقا حتى تجري الحياة (فيه)بعمق وحبور”، غير أنه اضطر أن يتخذ منها مسافة من الحذر عندما تيقن أنها تريد السيطرة عليه. واعتبر أنه مجرد” سمكة صغيرة محاطة بحوت يسعى (لابتلاعه)، وأمواج عالية، آتية (تقذفه) يمنة ويسرة”، وقرر الابتعاد عنها، غير أن حضورها مازال قوياً في (حياته)، قبل قرارها بالانتقال إلى مدينة أخرى ” لأسباب ظلت مجهولة لديه. وهوما عمق جراحه، وآلامه” غيابك اليوم عَمَّقَ جراحي.. يحفر في قلبي أخاديدَ من الحزن، وأنفاقاً من الألم.. لا مبالاة أهل قريتي أردتني آكل غضبي وأتجرع حيرتي”.
لم تكن سلوى هَمَّهُ الأساسي، بقدر ما كانت تهمه قريته التي كانت غارقة في وحل النفايات، والفقر، والظلم ” أخجل من نفسي اليوم، لأني لم أستطع أن أثبت لأهل قريتي أنهم قادرون على إعادة الحياة للقرية التي تموت كل لحظة وحين.. أخجل من نفسي، يا سلوى.. أخجل منها..”.  وقرر في النهاية الابتعاد عنا بشكل تام” أحكمت إغلاق قلبي حتى لا يتعطن.. لن يكتوي قلبي بلهيب الشق ثانية”.
قريبة البطل بالمدينة
وسنلاحظ التحول الذي سيحدث في علاقة البطل بالسيدة قريبتهم بالمدينة بعد عوته من القرية بعد انتهاء العطلة المدرسية، وقد ظهر ذلك من خلال الاستقبال المختلف، والذي أوحى بممارسات مختلفة عما كان عليه الأمر في السابق” .. ضمتني إلى صدرها وقبلتني قبلات متتالية وهي تضغط على جسدي. غمرني شوق إلى أمي.”، سلوك سيفتح مساراً جديداً في الحياة السرية للبطل، وعلاقته بجسد المرأة على الخصوص.” قُبْلَةُ السيدةِ عيارٌ آخر وطعم مختلف، كإبر تنغرز في جسدي وتحدث به ثقوباً تسيل منها إحساسات غريبة”، وسيكتشف حقيقة المرأة وعلاقاتها المشبوهة. وطقوسها الجنسية الخاصة، التي فرضتها عليه.” عدتُ مساءً من المدرسة، صادفت رجلاً خارجاً من البيت.. كان الباب لا يزال مفتوحاً والسيدة واقفة في ثوب شفاف يبان من خلاله لباسها الداخلي، يشرق بألوان خفيفة، أَقْفَلَتِ البابَ وضمتني إليها وبدأت تقبلني.”، وأرغمته على إقامة علاقة جنسية بشكل مباشر “تخلصت من ثوبها الشفاف مبقية على ثيابها الداخلية، نظرت إلى وجهها مَلِياً، كانت عيناها حالمتين… تسللت ظلال الليل من  النافذة، سترت جسمينا الملقين على السرير”وهو ما عمق تجربته، ومعرفته بالجسد الأنثوي” لم أكن أنتبه من قبل، إلى مناطق محددة من أجساد النساء، جسد السيدة نبهني إلى الشهوة والاشتهاء،  كانت السيدة مدرستي الأولى التي تعلمت فيها أول دروس حياة المتعة”.
الحاجة الربداء
شكلت هذه الشخصية استثناء في تصرفها وسلوكها الذي أضحى مألوفا عند الجميع” الحاجة الربداء، المرأة الوحيدة في القرية التي تجالس الرجال، وتدخن.. حاولت نساء القرية أن يتجنبن الجلوس إليها. وحدهما أمي وجدتي من كانتا تستسيغان التحدث معها والإنصات إليها وهي تحكي عن حياتها المليئة بالمغامرات”.
العاهرات بالمدينة
وتعتبر الجدة أن العاهرات نساء” بعن أرواحهن للشيطان” ولعل هذا الموقف سيطبع ذاكرته وسيعكسه سلوكه العفوي كل مرة كان يرافق فيها والده نحو المدينة  يقول عن “العوراء”،” تقبلني المرأة رغما عني وتلمظ شفتيها بلسانها، تغمز بعينها السليمة.. تكسر الصمت بضحكتها.. يشاركها أبي ضحكاتها وضحكات، وقهقهات صاحباتها في غمرة مرارتي، أهرب بعيدا عنها وأبحث عن خلوة للبكاء”، وكان رد فعله السريع ينم عن ما ترسب في أعماقه من مواقف والدته وجدته” وبكم قميصي أمسح أثر قبلات العوراء، وأجهد نفسي في محوها حتى لا يفتضح أمري أمام جدتي وأمي. “كما كان يحتج ويعقب على سلوك والده، بشكل صامت بأنه يستمتع ” بعشيرة العوراء”، وبكون والده ” صرف.. جزء من حياته في ملاحقة السراب، أملاً، كاذباً كان أمله” ويشير الراوي إلى أن والده كان” يرسل ابتسامات لكل عابر باحث عن مرفأ اللذة. أبي ينظر إليهن.. يرسل ابتسامات ويتلقى ضحكات داعرة. أبي الذي كان ينزع عن وجهه قناع الفرح والابتسام بمجرد دخوله البيت فنعمد جميعا لإخفاء قناع فرحنا خلال حضوره.. ونرتدي قناع الجد فترة تواجده بيننا قناع الذل” ” وقد وصل الأمر بالعياشي للتفكير في الزواج، بحيث جاء على لسان والدته المهدية، أنه فكر ذات مرة من الزواج من امرأة أخرى فاعترضت على قراره” كان طائشاً، لو لم يكن كذلك لما فكر يوما في الزواج على أمك.. أنه سيتزوج الطاهرة، أرملة المرحوم علي، سيتزوجها حسب أصول الشريعة.. بكت أمك توسلت.. حمداً لله أنه لم يوفق في الزواج”، ولا تعتبر تراجع العياشي توبة تمت عن قناعة بقدر ما تعتبر أنه اتخذها ذريعة و” فرصة سانحة، امتطى حذاءه وغادر إلى المدينة”.
الحلم كأفق رحب لتفسير حقائق الواقع
  • حلم البطل الذي سيكشف عن معاناة الأسرة
شَكَّلَ الحُلم فضاءً لتقديم أحداث الرواية، وإعلاناً عن مختلف تحولاتها الكبيرة، ويمكننا أن نميز بين ثلاث وقائع، الرغبة في الاستمرار في الحلم. كما عبر عنها البطل” كثيراً ما نستيقظ عند ذروة أحداث أحلامنا”. ما دام يشكل ملاد ومنفذا للهرب من ألم الواقع وأزماته. وقد كان يرفض أن يتم بتر لحظاته من خلال تدخل والدته التي أيقظته ليرافق والده إلى المدينة في لحظة كان فيها مشدودا لحلم جميل .” لماذا لا يمهلنا النوم لحظات ضافية لننعم بمعرفة ما ستؤول إليه أحلامنا ونحقق، على الأقل، لذة الاستمتاع بالاكتشاف والكشف عن المستور؟
  • حلم اليقظة
في حين عمل حلم اليقظة على شحذ خياله الخاص” رأيتني أمشي فوق السحاب، بل لأعدو ورقية وأمي إلى جانبي تتعثران في مشيتيهما، تقع رُقَيَّة، تقترب منها أمي، تمسكها من ذراعها وتساعدها على النهوض… انهض.. انفض عن ذاتك الخمول، أبوك في انتظارك.. يُريدُ أن ترافقه إلى المدينة”.  في حين شكل الحلم الاستباقي الذي أنبأ بالكارثة التي ستحل بالعائلة” رأيتني أخرج من الخيمة التي نصبناها، أمس، وسط الصحراء. أرمي بطرف عيني نحو الأفق، أرى الشمس فوق الهضبة.. تنفث الريح أناملها فتدفع الهضبة يمنة ويسرة.. في غمرة الحر تبدأ ندف الثلج تنزل، تتحول صفرة المكان إلى بياض.. تغطي النخيل ثلجاً، ينهمر مطر غزير، يحفر جداول وأنهاراً تجرف كل شيء.. أصرخ وأصرخ.. تنبعث يد، تمتد نحوي، أشد عليها بقوة تنزلق، يزداد صراخي، أحس بيد تربت على كتفي وصوت جدتي يردد: ” سبحان الله.. سبحان الله”.
ج- حلم الجدة
في حين كشف حلم الجدة عن قرب موت الجد مولاي العربي”.. بدا لي نورٌ شفيفٌ يقترب مني ويكبر، من النور انبعث طيف لا هيئة له. أشار إلي أن أقترب. اقتربت والفزع يطوقني. شد على يديَّ، سَرَتْ في جسدي قشعريرة. ظل ممسكاً بيدي وبصوت متهدج قال: ” استعد للنزول، رحلتك انتهت.. بعد يومين من ذلك، توفي رحمه الله”.
الصراع مع السلطة
  • عبد الرحمان
جاء الحديث عن عبد الرحمان زوج فاطمة الغمارية كبطل رفض التخلي عن أرضه عندما نشب الخلاف بين العياشي والقائد حول نزع ملكية الأرض التي يمتلكها.
فالجميع في القرية يتذكر مواقف عبد الرحمان البطولية وهو يتحدى السلطة بكل ما أوتي من قوة دفاعاً عن أرضه.” رحمة الله تظللك يا عبد الرحمن.. الكل يتذكر موقفك الرجولي” ” لم يكن عبد الرحمن يخشى أحدا، كانت السلطة تحسب له ألف حساب. قبل أن تعزم على الاستيلاء على أرضه، حاولت بطرق مختلفة إغراءه، وبعد ذلك تهديده. إلا أنه لم يرضخ لإغراءاتها ولا خاف من تهديداتها. وقف في وجهها بكل ما يملك من عزيمة” قام عبد الرحمان بالتصدي لمحاولة  شيخ القرية وكاد يقتله، ثم فر نحو مكان مجهول ” غاب… عن بيته، انتقل إلى المدينة، ومنها إلى قرية أخرى تقع على شاطئ” تمرابط”واشتغل صياداً مع الجاح حسن على متن قارب للصيد .
  • العياشي
لم يكن مصير العياشي أحسن من مصير عبد الرحمان، الذي سرد سيرته بنوع من الإصرار والاعجاب، وكأنه كان لحظتها يستمد منها القوة.
 تعرضت أسرة العياشي لمجموعة من المضايقات، بدءً بسطو غرباء على منزلها وسلبوا بعضاً من أغراضه، يقول الراوي: ” قبل أشهر ونحن نيام، هاجم بيتنا رجال ملثمون، اغتنموا فرصة غياب أبي من البيت، سرقوا حماما وطيورا، وبضعة رؤوس أغنام”، مباشرة بعد ذلك ستتوصل زوجة العياشي باستدعاء من طرف شيخ القرية، وأمرها أن تخبر زوجها بالحضور إلى مكتب القائد دون الإفصاح عن موضوعها.” طلب منها أن تخبر أبي، عند عودته، أن يحضر إلى مكتب القائد” ، وبعد لقاء العياشي به ” أخبره أن الأمر يتعلق بأرضه، وأن الدولة ستأخذها من العائلة للمصلحة العامة، وسيتم إبلاغه قريبا بالتفاصيل”، وهو الأمر الذي لم يتقبله هذه الأخير واعتبره انتهاكا لحقوقه وأملاك أسرته. “لم تكن المصلحة العامة التي اقتضت ذلك، بل مصلحة فئة صغيرة، “استغلت جهل البعض وخوف البعض الآخر، وحولت الأراضي المسلوبة إلى مصدر غنى فاحش”..
وهو ما أحدث تحولاً في سارية السرد، من خلال حديث رجال القرية عن خبر مفاده أن الدولة ستنتزع من بعض السكان أراضيهم من أجل المصلحة العامة “كان اسم جدي من بين الأسماء”، ونفس الخبر نقلته زوجة الهاشمي” أمي سمعت بدورها من زوجة أبا الهاشمي خبر نزع ملكية الأراضي”، وسيأخذ النزاع حول الأرض، منعطفاً آخر عندما قدم القائد للعياشي ” أوراقاً ووضع قلما، وطلب منه أن يوقع. رفض أبي أن يوقع يعرف أن ملكية الأرض باسم جدي، قال القائد أن نزع الملكية لا رجعة فيه، المصلحة العامة تقتضي ذلك” وكان يعرف أن الأمر مدبر في الخفاء” رفض أبي من جديد لأنه يعرف أن سلب الأرض من العائلة سرقة وليس بيعاً وشراء، عرف مما حدث لعبد الرحمن، والملكية باسم جدتي وليست باسمه” ، وسيدخل العياشي في صراع مع أحد الحراس فاصطدم به وسقط على الرض مغمياً عليه “سقط على قفاه. سال دم من منخريه، وظل هامداً وهو ملقى على الأرض… ما أن فتح العون باب المكتب حتى كان أبي يركض مبتعداً عن مركز القيادة”. شاع الخبر بالمقهى والقرية، وتكفل شخص المعطي بنقله لمنزل الراوي.” قال المعطي إن أبي وقع في مشاكل مع السيد القائد، انفعل وضرب العسكري وفر هارباً” 
وسيتم الحكم، على عائلة العياشي، بالإفراغ من الدار التي كان يقطن بها بالقوة بعد صدور حكم المحكمة. وانتقلت الأسرة إلى منزل آخر بالقرية، وقد عقبت الجدة بحسرة عن النازلة” السلطة تريد سرقتي، تريد إبعادي عن أرضي التي نعمت فيها إلى جانب سي العربي، رحمه الله، برغد الحياة.. الأشياء الحلوة دفنتها يوم دفنت زوجي” وكما هو الأمر في النوائب يتحدث الجميع ويعبرون عن مواساتهم دون القدرة على تقديم فعل واقعي” الكل يتحدث عَنَّا طُرِدْنا من منزلنا، ولا أحد يستطيع أن يمد لنا يد العون. “وهو الموقف التي انتقده أوربا بسخرية قاتمة” تقدم كبير يحصل في هذه القرية.. لم تعودوا مكتفين بمتابعة عورات النساء والفتيات، والحديث عنهن كل وقت وحين.. بدأتم تعرفون متى ينقطع الحيض عنهن، ومتى يحسسن بالغثيان والقيء، ومتى تزداد أحجام بطونهن وأثدائهن.. قبحكم الله.. وقبح الجهل.. أنتم أموات.. زمنكم انتهى.. انتهى من زمان
لقد عرت الرواية عن الصراع غير المتكافئ بين السلطة والسكان العزل، الذين أرغموا عن التخلي عن أراضيهم من أجل المصلحة العامة، وهو الأمر الذي كشف في النهاية عن مؤامرة كبيرة من أجل إنشاء مصنع للمبيدات سيتسبب في كارثة بيئية في النهاية، وهو الفكرة الأساسية التي شكلت عصب هذه الرواية، وربما هاجس كاتبها منذ البداية. بحيث سيعمل الروائي بشكل متوازي على تقديم صورتين متباينتين للقرية، الأولى قبل إنشاء المصنع، والثانية بعد حدوث كارثة الجفاف وإنشاء المصنع. وكان لهذه التحولات انعكاسات مباشرة على سلوك ونفسية السكان.
  التركيبة النفسية لسكان القرية
اتخذت الروايةُ القريةَ كفضاء مثالي وأساسي لتشييد مجمل وقائعها، في حين بدت المدينة كفضاء ثانوي، لا يتم اللجوء إليه إلا عند الضرورة، أو لتبرير تنقلات شخصية من شخصيات الرواية، وتضاربت المواقف والأحاسيس حولها.  يقول الناقد حسام الدين نوالي” اختارت بعض الأعمال الروائية التموقع في دائرة النفور من المدينة، وأسست عوالمها الإبداعية وبنياتها ومواقفها على الطرف النقيض تماما من المدينة، ليس بمجرد اتخاذ الأحياز البدوية والريفية والصحراوية والجبلية أمكنة تتحرك فيها الشخصيات وتبنى فيها الأحداث.. ولكن باستثمار الأمكنة اللامدينية وشخصياتها وعلاقتها لبناء الموقف وتقديم الخطاب الروائي داخل رؤية فنية شاملة وواعية على النحو الذي اشتغل به صبري موسى في ” فساد الأمكنة” وإبراهيم الكوني في أغلب رواياته، وغيرهما.”
وهكذا قدم الراوي مواقف شخصيات الرواية حول قريتهم. وتبدو الصورة الأولى مثالية، حيث ” كانت.. مياه النهر تجري متدفقة ومانحة الحياة للناس والدواب والأرض، تروى الحقول وتمتلئ الأبيار والآبار، وتشق الجداول مسالك تعبر الحقول واهبة لها الحياة”، ولعل بهجة الطبيعة كانت تنعكس ” على سلوك الناس.. تتقلص مساحة الخلافات والتشنج. ويشع نور الفرح والسعادة في العيون، تغدو القرية بهية جذلة ترفل في ثوب السعادة”، وتمنحهم  فرصاً  للإنتاج الوفير “زرعوا بذور الخضر والفواكه يجنون نتاج ما زرعوا. يحملون المنتوجات لبيعها في أسواق المدينة أو في السوق الأسبوعي للقرية”، وبالتالي ينعكس ذلك على وضع أهل القرية وخصوبة نسائهم” بطون النساء تنتفخ في هذه الفترة أكثر من باقي فترات السنة، وأن مساحة الخلافات تقل بين الأزواج، ويحل محلها وُدٌّ قد لا يعمر طويلا”.
وإذا كانت التركيبة النفسية للسكان وقت الرخاء تعكس تسامحهم، وتوادهم، وتآزرهم فإنها سرعان ما تكشف عن عكس ذلك بعد حدوث كارثة الجفاء وعن حقيقة، يقول الراوي “وجوه تشي بعلامات الضياع، وهي ترنو إلى السماء التي ضنت عليها طول هذه المدة بقطرة ماء، وتلتفت يمنة ويسرة فيفجعها واقع الأراضي القاحلة الممتدة، وقعر النهر بأحجاره الصلدة، بعد أن جفت المنابع، وضمرت الماشية، مات أغلبها، وقلة ذات اليد لاقتناء علف لها’..
ولعل هذا التحول الذي فرضته الظروف المناخية، سينعكس كذلك سَلْباً على سلوك أفراد القرية، كما جاء على لسان أوربا:” تقدم كبير يحصل في هذه القرية.. لم تعودوا مكتفين بمتابعة عورات النساء والفتيات، والحديث عنهن كل وقت وحين.. بدأتم تعرفون متى ينقطع الحيض عنهن، ومتى يحسسن بالغثيان والقيء، ومتى تزداد أحجام بطونهن وأثدائهن.. قبحكم الله.. وقبح الجهل.. أنتم أموات.. زمنكم انتهى.. انتهى من زمان” وهو ما عكس حقيقية تصرفهم وردود أفعالهم، ومواقفهم إزاء مجموعة من القضايا كذلك من قبيل: نشر الشائعات، والخرافات. من بينها قصة حمار المعطي، الذي دفعهم تصرفه وراء المسجد إلى اعتبار “أن القرية يسكنها الجن”. فتحاملوا عليه حد الإفتاء بالحكم عليه بالقتل” … يجب على سكان القرية أن يبادروا إلى قتل الحمار، وحرق جثته حتى لا يغادرها الجن وينتقل إلى الإنسان”
” في ظل هذا الفراغ والانتظار، تجد الشائعات سبيلها إلى الآذان. تتقبلها، تصدقها دون تمحيص، وبدل أن تنقلها إلى الأدمغة توجهها نحو الأفواه، فتلوكها الألسن”.
 ونظراً لغياب بنيةٍ تحتيةٍ بالقرية، ومحدود فعالية المرافق الأساسية، فقد غدت القرية سجناً فسيحاً، ومرتعا للشائعات يقول الراوي” السلطات تعدنا ببناء منازل جديدة تليق بنا. وكلما اقتربت فترة الانتخابات يضعون الحجر الأساس، وينصرفون.. ولا أدري كم مرة وضعوه لبناء مدرسة.. لا قنطرة بنيت ولا مدرسة..”، وستعيد” بناء القنطرة، وتعبد الطريق وستحفر آباراً، وستوفر لكل من يود خدمة الأرض، آلات حديثة للحرث بأثمنة تفضيلية، وبذورا وشتائل بالمجان” ، وسنكتشف مدى الخمول الذي وصلوا إليه حتى إِنَّ “بعض سكان القرية درج على قضاء يومه قرب المسجد، أو أمام أبواب الدكاكين القليلة المنتثرة في القرية، في إنتاج الكلام ولعب” الضَّامة” وجلد أعراض الناس”، في حين ستستفحل أوضاع السكان بالقرية و”عانت … من الجفاف الذي أحرق الأراضي وجفف النهر والعيون، وبسط الجراد جحافله على ما غفلت عنه أو أغفلته عين الشمس.
هاجرت أسر وعائلات وتشتتت بين مداشر وقرى مجاورة، وغامرت أُسَرٌ وعائلاتٌ إلى الانتقال إلى مناطق أبعد، والبحث عن ما يسد رمقها في المدينة”، إلى درجة أن شخص أوربا سيثور في وجههم بحنق يقول: ” لا أرى قرية هنا.. أرى مزابل وأمراضاً وروثاً ملقى في كل جانب، ورجالا هدمهم الجهل، وانحنت ظهورهم من كثرة الخنوع، والذل والخوف من كل شيء، من القائد والشيخ والطقس، والغد.”، كما كشف عن مستوى متردي من النقاش والتفكير في تحديد أولويات سكان القرية .” مقابركم غدت مأوى للباحثين عن اللذة الرخيصة. تَبّاً لقوم يقرعون الخمر وهم جالسون على القبور، تبا لقوم يمارسون شذوذهم بين الأموات”
وسيعكس المقهى كفضاء مستوى النقاش الذي كان يدور بين رواده من سكان القرية وطبيعة انشغالاتهم، بالحديث عن حدث زواج القدميري من شامة، وأنساهم متابعة الحديث عن جنون حمار المعطي الأرعن، فتحولت الحياة الشخصية للمعطي محور حديثهم. بل عمقوا نقاشهم حول الحياة الشخصية للرجل، و”تساءلوا كيف قسم القدميري ليالي المبيت بين زوجتيه وهل كان عادلا في ذلك. تساءلوا كيف كان موقف السعدية ليلة” البوجة” وهي تسمع أنات الطفلة وهي بين يدي رجل تقاسمت معه الحياة والفراش مدة عشرتهما”  في حين شكل دكان حلاق القرية مكاناً أخر  للبوح وتجاذب أطرف الحديث حول المواضيع المحظورة. وأثناء الإشارة إلى شخصية الحلاق..
عمد السارد إلى تقديم وصف داخلي وخارجي دقيق لدكانه. ” كان حلاق قريتنا، ذلك الحلاق الذي ما عرفت له اسماً آخر غير “المعلم”  “دكان الحلاق تشع منه رائحة البخور. دخان يخنق، كاد أن يغمى علي” كما كشف عن محتوياته الغريبة من صور ذات دلالات دينية ” آدم وحواء” أو فنية” أم كلثوم، أو سياسية” الرئيس عبد الناصر” والملك فاروق” كما تتم الإشارة إلى طريقة الحلاقة التقليدية، والتي كانت مرتبطة بسلوك الحلاق وطريقة حكيه بما يمارس من خلالها من جاذبية على زبنائه. كما يكشف عن غرابة هذه الشخصية، فالحلاق “يبدأ بالحالة الجوية ويعرج على عورات بعض نساء وفتيات القرية والقرى المجاورة والحرب الأهلية الاسبانية، وفترة المجاعة التي اجتاحت البلاد”، وهو شخص “يجد متعةً عند الحديث عن النساء، لا لم يكن يتحدث عن النساء، كان كلامه ينصب على عورتهن”، كما كان عاشقاً للنساء.
بحيث ينقل الراوي لقطة فريدة له وهو داخل حفل زواج القدميري “تابع الحلاق تحركاتها(شابة)، أحست بنظراته تلاحقها وتعيق خطواتها. ما همه القميص وما همته الألوان. تسمرت عيناه عند صدرها وما برحتاه. انتصب الوهم أمامه صنماً، غرق في تأملاته للحظة وحلق إلى سماء الحلم.. كذئب يتنكر في زي خروف” مما كشف عن كون الرغبة الجنسية تظل مستيقظة في قلوب الرجال مهما بلغوا من العمر عتياً” في الحقيقة لم تكن الرقصة هي التي شدتهم إلى الفرجة. الأرداف والنهود وهي تهتز وتحرك مشاعرهم وأشياء أخرى، هي التي شدتهم إلى متابعة الفتيات والنساء وهن يرقصن”.
كما شكل موته مفارقة ” مات الحلاق يوم العيد، كأن موته عقاب من الله له، لأنه لم يسلم من لسانه أحد”.” اليوم شيعت القرية الحلاق إلى مثواه الأخير. مات الحلاق يوم العيد، كأن موته هذا اليوم عقاب من الله له، لأنه لم يسلم من لسانه أحد”.  كما ” لم يعرف أحد سبب مرض الحلاق الذي أودى به إلى الموت”.
اعتماد مقاربة إيكولوجية في تشييد المعمار الروائي
  • البدايات الفعلية للتلوث بالقرية
لابد من الإشارة إلى أن بداية الرواية تطرح بشكل سريع الإطار الذي تم من خلاله التخطيط لكتابتها، انطلاقا من إشارة الراوي إلى انشغاله ببحثه الجامعي” أنا الآن منهمك على إتمام بحثي في موضوع” أثر النفايات الصلبة والسائلة على البيئة الطبيعية والانسان”، وستنتهي بالإعلان عن قرب موعد مناقشتها. ” غداً سأعود إلى المدينة باكراً. بعد غد سأناقش أطروحتي”.
لعل أهم مسار من مسارات الرواية، وربما أساس أحداثها، هو الحديث عن عوامل تلوث البيئة، وتداعياته السلبية على الإنسان والمجال. بحيث سيقع تحول كبير في أحداث الرواية بالانتقال من الحديث عن قضايا وهموم الساكنة، وما يشغل بالها، ويشكل أولوياتها، حسب ما نستشفه من الأحاديث التي احتضنتها بيوتهم، أو فضاءات خارجية كالمقهى، ودكان الحلاق. والتي تمحورت في الغالب حول جنون حمار المعطي، وزواج القدميري، ومرض ربيعة ابنة فاطمة الغمارية وعبد الرحمان. والفساد الأخلاقي للعياشي وعلاقاته المشبوهة مع النساء بالمدينة، إلى حديث عن مشكلة نزع الأراضي من الفلاحين من أجل بناء مصنع كبير.
وهو المشروع الذي أحيط إنتاجه بالكثير من السرية، وشكل مركز اهتمام سكان القرية بشكل عام. إلى أن تم ذلك بالقوة. وتضامن السكان مع الأسر المنكوبة من بينها أسرة الراوي، من خلال رفض بعض رجال القرية المشاركة في عملية بناء المصنع” رغم تهديدات القايد وبعض رجال السلطة، احتراماً لجدتي وجدي رحمه الله”.
ولم يتوقف الأمر عند رصد يوميات بناء المصنع، وعدها بالتمام والكمال ” ستة أشهر وثلاثة عشر يوماً ظل سكان القرية يتابعون نشاط العمال.. ظل سكان القرية يمنون أنفسهم بالحصول على عمل بالمعمل” الذي ظل مغلقاً رغم الانتهاء من تركيب الآلات، و”الكل يمني نفسه بفرصة الاشتغال وتكسير قيود البطالة التي كبلتهم طوال السنين الماضية.. يقفون كل يوم باكراً عند باب المعمل..”
” ظل الناس على هذه الحال مدة طويلة.. مرت أربع سنوات على تشييد المصنع، ولم يفتح أبوابه بعد في وجه طابور المنتظرين الذين أضحت حياتهم مسيجة بالعشوائية …فترة الانتظار تمددت وتمددت معها انفعالات المنتظرين” كما برز من خلال أحداث الرواية السياسة التي نهجها رب المعمل مع السكان في البداية، عندما حل بينهم كرجل متواضع، يقصد القرية “للصلاة مع الجماعة.” ، إلى جانب ما كان يقدمه لهم من وعود، كبناء منازل لائقة، إلى جانب هداياه الفعلية” قرر أن يهديهم بمناسبة عيد الأضحى هدية العيد، وهي عبارة عن أضحية لكل عامل”. وحدث أن تعرضت مجموعة من العمال والعاملات للتسمم،
حادث المصنع”. يمتزج صراخ وأنين المصابين بضجيج وجلبة الأهالي والأقارب”، مطالبة الأهالي بتحسين ظروف العمل، وبتدخل السلطة” قصد معاينة الحادثة وتحديد المسؤوليات”، واكتشفوا أن” تناول الغذاء بالمعمل الذي يحتوي على مواد كيماوية يؤدي لتلوث الغذاء. وتدخل صاحب المصنع و”هدد بالطرد كل من تمادى في انتقاد طريقة تعامله، خفض من أجور بعضهم بدعوى الكساد الذي عرفه المعمل في الأيام السالفة، وارتفاع أثمان المواد الأساسية. انتفضت بعض النساء في وجهه متهمات إياه بمراودته لهن، خاصة الأرامل والمطلقات منهن”.
كما سيتعرض جزء من المصنع للاحتراق” المعمل تحت لهيب النار الذي اشتعلت بالمخزن. فحيح الحرائق وأزيزها يعلوان، أحياناً فوق صراخ العمال والعاملات”، وتفاجأ الجميع أن المعمل لم يكن يتوفر على أجهزة السلامة “تفاجأ الجميع بعدم توفر أية وسائل للسلامة سوى طفايتي حريق صغيرتين، اتضح أنهما كانتا فارغتين”، كما أنه لم يكن” مجهزاً بشبكة أنابيب لمياه الإطفاء، لا وجود لنظام الإنذار الآلي ذي الرؤوس الكاشفة للحرارة والدخان، ولا نظام الإطفاء التلقائي باستخدام رشاشات المياه الأتوماتيكية”.
  • الآثار السلبية للنفايات على صحة العاملات والعمال وباقي سكان القرية
” لم تقتصر الآثار السلبية على العمال والعاملات، بل تعدتها إلى باقي سكان القرية، بعض من المتقدمين في السن أضحوا يشكون من فقدان السمع… معلم المدرسة بدوره يشتكي من تدني قدرة التلاميذ على التركيز”
” الدخان الكثيف الذي ترسله مدخنة المعمل حول نهار القرية إلى ظلمة، تنعدم الرؤية في غالب الأحيان، مع ما يصاحب ذلك من أثر على الجهاز التنفسي للأفراد”
” النفايات السائلة التي يلقي بها المعمل إلى النهر دون معالجة أرداه صندوق قمامة يصدر روائح كريهة تزكم الأنوف”
” اقتلاع الأشجار، أدى إلى تعرية الغابة، وإلى انجراف التربة. أصبحت الأراضي فقيرة وغير صالحة للزراعة ولإنتاج حياة نباتية من جديد”
“حياة أهل القرية تحولت إلى عادةٍ، عادة مملة، سمتها الاجترار والانتظار”
“غير عادة الانتظار كانت رياضة الألسن ترفع كأس الريادة.. ينذر أن تجد بين السكان من كان لسانه يظل حبيس فمه لمدة دقائق معدودة كي لا يقترف النميمة”
” كلما مر بهم أحد سواء أكان رجلاً أو امرأة، حتى ولو كان طفلاً أو صبية ترغم الألسن الأفواه على الانفتاح قصد التكلم، حتى ولو لم يكن الأمر يدعو لذلك”
اقترح البطل إنشاء جمعية تدافع عن القرية،” من أجل بيئة سليمة”، وكانت”(محاولة) تأسيس جمعية تسعى إلى خلق وعي بيئي لدى السكان حتى يصبحون مساهمين ومشاركين في حماية البيئة ورعايتها، باءت بالفشل”
  • الأرض “رمز” للهوية والانتماء والوجود
شكل امتلاك الأرض في البادية إحالة على المكانة الاجتماعية، فبقدر ما تملك تتحدد قيمتك بين أفراد القبيلة والعشيرة. وبقدر ما يمكن اعتبار هذا الطرح أمراً عادياً، ومنطقياً، فإن دلالاته الحقيقية تكمن فيما تعرض له الأفراد إبان فترة الأوبئة والجفاف والكوارث الطبيعية والمجاعات، وما تسببت فيه من حرمان وأخطار، بحيث لم يعد للأرض البور قيمة، ولا لحياة الذات المهددة بالموت والفناء في أية لحظة قيمة، فالأرض تحدد قيمتها بقدر مردوديتها، وعطائها، في ظل بيئة متوازنة مناخياً، وطبيعياً.
ولعل تمسك الجدة المهدية بأرض العائلة، ومحافظتها عليها ربما هو نتيجة لما عاشته من مآسي  في البادية ذات زمن ولى: “كان الزمن قاسياً معنا، جدك وأنا.. أقصد أسرة جدك وأسرتي. هجر جدك إلى الشمال فراراً من المجاعة التي أضحت تلاحق الأفواه. وهجرت أسرتنا، أيضاً، هروباً من جحيم الجوع الذي أهلكنا”. بحيث تقدم صورة قاتمة عن مرحلة من تاريخ البادية، التي كانت مركز جذب للاستقرار بالمقارنة مع المدن” كانت الحيوانات تموت بشكل متسارع لأنها لم تجد ما تقتات به، وكان مالكوها يفضلون ذبحها قبل أن تنفق.. لم يكن الناس يستطيعون توفير لقمة عيش لأنفسهم ولأسرهم”  كما تصف معاناة النساء داخل القرية” كانت أمي رحمها الله، ونساء القرية يبحثن عن الحشائش والأعشاب، يجمعنها ويضعنها في أزرهن، وكن يفرحن إن هن عثرن على “يرنة”، العثور عليها وطبخها وأكلها، يوازي التغذي باللحم أو فراخ الطيور”..
كانت فترة المجاعة تسمى  ب” عام الصندوق، وعام البون، والليبريطا، وعام يرنة..”. وظلت فكرة الهلاك مقترنة بالبقاء في القرية، في ظل ظروف قاسية جدا، إلى درجة أن أحد الشيوخ” أقسم أن كل من عاند وظل متمسكاً بفكرة المكوث بالقرية، فهو هالك لا محالة”. وهو ما سَرَّعَ من وثيرة الرحيل عنها” بدا هاجس الرحيل عن القرية يجتاح الرؤوس التي اعتمرها اليأس، يأس من غد أفضل.” هذا في الوقت الذي لم يكن فيها أحد يتصور في يوم من الأيام أنه سيغادرها، وكان يحذوهم أمل في أن السماء ستنعم عليهم، لكنها “ظلت متمسكة بعنادها، ولم ينفلق المدى عن طيف الماء”
ولم يختلف الأمر في المدينة عمَّا هو عليه في البادية التي عرفت أشكالاً من التموين ” في المدن كان بعض الناس ممن استطاعوا ادخار القمح في فترة عمت فيها المجاعة يرسلون عجين الخبز إلى الفرن في صناديق محكمة الإقفال مخافة أن يسرق منهم الرغيف.. وأحمد الله لأننا نحن، كان بإمكاننا الاستفادة من نظام التموين عن طريق”البون”. كانت أوراقاً بألوان وأرقام مختلفة، لون للزيت، وآخر للسكر، وثالث للشاي، أي المواد الأساسية”.
ولعلَّ هذا ما يفسر، نسبياً، دلالة ارتباط الجدة بالأرض باعتبارها مؤشرا على الانتماء والهوية، ومصدراً للعيش الرغيد، ودلالة على المكانة الاجتماعية، وهو ما جعلها تقتنع وتردد ما كان يردده زوجها” الأرض معطاء كلما أعطيتها، وعطاؤها تربة جيدة وماء.. كلما رويت الأرض جيداً أعطتك ثماراً جيدة.. حتى وإن لم تثمر الشجرة فإنها ستظللك..”
  • مواقف شخصيات الرواية من المدينة
” إن المكان- عموماً- لا يكتسب معنىً إلا من خلال التجربة، فخصوصيته هي انعكاس لعلاقته مع الذات ومع المحيط، أي من خلال المعرفة والأحاسيس والعقائد والمواقف التي تتشكل من خلال هذه العلاقة”.
كما يكون  المكان”(…) انعكاساً للخوف، خوف من السجن في مكان ضيق أو الخوف من التيه في عالم دون علامات. إن الحيز المكاني الي يعبر في المقام الأول عن مصير الفلسطيني حبيس معسكره أو الملقى في صحراء العالم الثالث، حيث- يكاد- يسمع صراخه، هذا المكان يعكس أيضاً الحالة الإنسانية المعذبة.”
وقد تباينت مواقف شخصيات الرواية من المدينة كفضاء، بحيث قالت عنها الصافية ” عنيفة هي المدينة”، في حين كانت للبطل، عنها، رؤى متضاربة. فهي أحياناً ” صورة للفرح ومنبعا له. أتجول في شوارعها الفسيحة وحدائقها الغناء”، وأحياناً أخرى تشعره بالوحدة خاصة عندما كان بالحانة التي يقصدها والده” وحيداً أحسست بذاتي وسط هذا الحشد من الناس”، كما صعقته فيها بعض الصور الماجنة والخادشة للحياء، ” حركة دائبة، شراب ودخان وجلبة”.
ورغم أنَّ هذه الصورة الإيجابية التي قدمها، عنها، أحياناً وهو يتجول بين الشوارع والأزقة، ودور السينما ويتفرج على ملصقاتها. فإنه كان يخشى على مستقبله الدراسي” لا أريد أن أنقطع عن دراستي، ولا أريد بالمقابل أن تبتلعني المدينة وتكبل قدمي فخاخ العوراء”. وظل ” طيف المدينة يرقص” أمام عينيه، وقد تأثر كذلك كثيراً من الصورة السلبية التي كانت تشكلها له والدته (الصافية) عن المدينة ” أكلته المدينة.. أكلته المدينة” كما سنطلع على موقف الحاجة الربداء من المدينة ” المدينة جحيم.. اسألاني أنا التي عشت في المدينة، لا حبيب فيها ولا رحيم.. المدينة غول تأكل ساكنيها..”.
وبعد الانتقال إلى المدينة من أجل الدراسة بدأت نظرة البطل تتغير” كانت المدينة تبدو لي قرية أخرى. الفرق بينها وبين قريتنا أن المدينة أكثر شساعة وأكثر سكاناً”، وعرَّى عن صورتها السلبية ” هذه المدينة لم تعد في حاجة لحمايتها، فَاتَ أوان الحماية”، وكشف عن مظاهر والفقر والتسول بها “صور للفقر بادية للعيان، كثرة المتسولين أينما حللت، يطرقون أبواب المنازل، يقفون عند أبواب الإدارات والمؤسسات العمومية، وعند أبواب المساجد، ومفترق الطرق”، ودور الدعارة “حومة النساء”. ” ما كان يخطر ببالي أن بالمدينة أحياء خاصة للرجال وأخرى للنساء… بائعات الهوى”  ” بين الأقواس تقف نساء، ويحوم حولهن رجال وشباب، يساوموهن.” و”بعيدا عن كون المكان الأدبي” ذا معنى استعاري، فإن مكان الكتابة كما هو متصور هنا يجب أن يرجع إلى واقع ملموس: فهو نتاج تأليفه ثم طرحه للتداول في العالم الحقيقي للأعمال الأدبية في العالم اليوم”
غير أن هذه النظرة لم تخف جوانب مضيئة بالمدينة، وعادات وتقاليد سكانها، بحيث كان يخصص يوم الأحد ” للذهاب إلى السينما”، فاكتشف فضاءات المدينة “ساحة الفدان” و” ساحة “بلاصا بريمو” والأطفال يعدون ويلعبون مرحين، عن أعمدة أسلاك” الطرولي”، عن ملصقات إعلان الأفلام التي تعرضها دور السينما، عن بائعي البالونات الهوائية بألوان بهيجة، وعن بائع ” البركيو” باردة هي المدينة” و”رياض العشاق”.
الكتابة: توظيف الميتاسرد
أَفْرَدَ الروائي البشير الْأَزَمِي، مجموعة من الفقرات التي تمت فيها الإشارة إلى توظيف الكتابة الميتا سردية بحيث تم توقيف السرد على لسان السارد وسلم زمامه لبطل الرواية الذي تمرد على الكاتب، ورفض أن يورطه في مشروعه الكتابي، ” بدأت تنتابني، من أيام قريبة، أسئلة تحيرني.. تؤرقني.. لماذا اختارني بشير حاملاً لروايته، وأقحمني في هذه العوالم.. هذه المتاهات، وهو يعرف أني مازلت صغيراً غير قادر على تحمل مثل هذه المسؤولية بموضوعية؟
ولعل هذه التقنية ستكشف عن علو كعب الروائي، وقدرته على تطويع السرد، وخلق مسار جديد، طرح من خلاله موقف الشخصية الأساسية للرواية، سأكون شجاعا رغم حداثة سني، وأقول: “ذلك شأنه، أنا سأتابع حياتي الورقية كما هي، وليس كما يريدها بشير لي، لكن ما أخشاه أن يعمد على إقحامي في متاهات تفوق قدراتي، ويجعلني دمية يوجه خيوطها كما أراد وحيثما أراد..”  لكن بيني وبينكم، لن أرضخ لإرادته، ولن أرقص على نغمات إيقاعه”
” حمداً لله أن أبي اشترى للطاهر كلباً سيكون رفيقي وعزائي، إن تمردت على بشير وأعفاني من عملية السرد”
التدريس بالْكُتَّاب
يستعيد الراوي فترة دراسته بالكُتَّاب، بحيث لا يتوانى عن وصف طرقه، ومنهجيته، وتعامل الفقيه معهم، ويكشف عن نوع من القسوة التي كانت تشوب طرقه، كان الفقيه مجاهد مثلا خلال” فترة انتهاء الحصة المسائية غير محددة، كما في المدارس الحكومية، بل تبقى رهينة قدرة” المحضري” على حفظ الآيات واستعراضها على الفقيه الذي يأذن له، إن هو برهن، عن طريق الاستظهار، أنه تمكن من حفظها، بمحو “اللوح”.. من لم تسعفه ذاكرته في الحفظ يضطر إلى البقاء إلى ساعة متأخرة إلى أن يتمكن من الحفظ، ولا تخلو هذه المدة من جولة عقاب”.
كما طرح الراوي مفهوم “التحريرة”، بحيث يقول أنه “بين الفينة والأخرى يأتي رجل أو امرأة ويقدم للفقيه مقداراً مالياً، “التحريرة”، ويطلب منه أن يحررنا من ما تبقى من زمن الحصة”. وحول العقاب البدني يشير الراوي إلى أن الفقيه كان “يأخذ العصا المناسبة ويهوي على هدفه، فيعرفه” المحضري” أنه أخطأ عند القراءة أو سها”، كما كان “الفقيه ينتقي اثنين توفرت فيهما مواصفات تؤهلهما لقيام بمهمة” الفلقة”، يحدد الهدف ويشير إليهما، في رمشة عين ينقضان على المحضري المرام معاقبته، يرفعانه ويتقدمان من الفقيه…بشرع بالضرب بطريقة هستيرية ويتمادى في ضربه حتى تنضح القدمان دما”.
الفضاءات الأثيرة
لعل الفضاء العام الذي دارت فيه أحداث أغلب أحداث الرواية هو القرية، -باستثناء توظيف فضاءات قليلة بالمدينة لتعزيز السرد-. التي شكلت البداية والنهاية. وقد رصدت الرواية مجموعة من الفضاءات الخاصة بالسكان القروين، والتي حددت طبيعة العلاقات بينهم داخل القرية كالكتاب، والمقهى الذي يقول عنه ” لم يكن المقهى المكان المفضل للتجار فقط، بل كان محجاً كذلك للسكان القروين والقرى المجاورة، الذين يقصدون السوق الأسبوعي قصد التبضع، أو البيع، أو قصد تزجية الوقت”.
سوق عام
  سوق عام الذي ” كان قبل ثلاث سنوات، يحدد يوم الاحتفال به بحيث” ينظم كل سنة بقرية محددة، تعرض فيه البضائع على اختلاف أنواعها وأشكالها، خليط من الأشياء، أدوات الطبخ المنزلية، آلات الإيقاع التقليدية، مزامير حلويات بألوان فاقعة، ملابس جديدة ولعب للأطفال، كل هذه الأشياء كانت تشد أهل القرية والزائرين”
دكان الحلاق
المكان الأثير الذي يجتمع فيه الرجال، مع” حلاق قريتنا، “المعلم”.، وهو “دكان … تشع منه رائحة البخور. دخان يخنق، كاد أن يغمى علي”، كما تميز هذا الفضاء بأثاثه الغريب، “الصور التي كان يعلقها على جداره، صورة لجمال عبد الناصر، وأخرى لأم كلثوم، وصورة لآدم وحواء والأفعى.. والتي من خلالها تم استحضار العدوان الثلاثي على مصر، والثورة على الملك فاروق، وهو ما يفسر تأثر الحلاق بالفكر الثوري الناصري”
 المدينة
قدمت المدينة داخل الرواية بشكل سلبي، واعتبرت فضاء للتيه، والدعارة، والتسول، فهي حسب الحاجة الربداء “لا حبيب فيها ولا رحيم.. المدينة غول تأكل ساكنيها..”، موقف تتقاطع فيه معها الصافية، أم الراوي، أثناء الحديث عن زوجها الذي ” أكلته المدينة”. واعتبر البطل أن ” هذه المدينة لم تعد في حاجة لحمايتها، فات أوان الحماية”، وهي كذلك فضاء لممارسة الدعارة” ما كان يخطر ببالي أن بالمدينة أحياء خاصة للرجال وأخرى للنساء… بائعات الهوى”.
المصنع
لم تتم الإشارة إلى أحداث تدور داخل المصنع بقدر ما تم رصد أغلب الأحداث التي دارت قرب بوابته، وفي محيطه، باستثناء الحديث عن الاحتراق الذي شمل آلاته في جزء داخلي منه. هكذا تم تقديم كرونولوجيا بناء المصنع التي تقاسمت شخصيات الرواية الحديث عنها ومن زوايا مختلفة، المقهى، من داخل البيت، من حقول القرية، بحيث كان الرصد إما مُبَأَّراً، أو فضفاضا من خلال ما استشف من سياق حديث شخصيات أخرى أثناء لحظات الترقب، أو انتظار تشغيل المصنع، أومن خلال تهديدات رب المعمل. أو ما جاء على لسان القائد وأعوانعوان السلطة المحلية أو ما تناقلته شخصيات ثانوية أخرى.
نشير في ختام هذه الورقة أن رواية “وجع الجذور” تمكنت من طرح إشكالية التلوث البيئي بالعالم القروي، مع الكشف عن تداعياته النفسية، والجسدية، ومخاطره الكبيرة، على المجال والانسان، – ظاهرة تعودنا في الواقع على استفحالها وتداعيات خطورتها بالحواضر الكبيرة- في قالب روائي تخييلي محض، تميز بالإثارة، والمتعة. وقدمت شخصيات الرواية مواقفها بكل جرأة منتقدة سياسة التهميش والتسويف، والشطط في استعمال السلطة، والتدخل في الحياة الخاصة للأفراد، وصور القهر الاجتماعي، مما عري عن نوع من الهشاشة، وعدم الاستقرار تسببا في نزيف مستمر من الهجرة نحو أطراف المدينة.
ومن خلال المقارنة بين واقع الحياة في القرية في الماضي، وكذلك في الحاضر، أبرزت أحداث الرواية أن لا شيء تغير، وباتت الحاجة ملحة للالتفات لهذه الربوع المنسية. دون أن تغفل عن تقديم صور زاهية عن طبيعة الحياة بها، وممارستها لمجموعة من الطقوس: العرس بالقرية، والجنائز، والمواسم، مع الإشارة إلى الأسواق، وخدمات تقدمها مرافق أخرة كالمقهى، ودكان الحلاق، والمسجد، والكُتَّاب، والمدرسة.. ولم يفت الروائي من الإشارة إلى أهمية الملكية الخاصة للأرض بالقرية، وما تمنحه لصاحبها من مكانة اجتماعية، وإحساس بالانتماء للجماعة.
ومن خلال الحفر في العميق في الجوانب النفسية لشخصيات الرواية، لمسنا أن العلاقة بالمجال تتأثر بطبيعة الظروف المناخية، بحيث يعم السلم والأمن والسعادة في الفترات الخصيبة، التي تجود فيها السماء بالمطر، وتتغير في فترات القحط والجفاف وينعكس ذلك على نظرة الأفراد للواقع، وهو ما يتسبب في الاحتقان وتذمر، والخوف، ويؤثر على علاقة الأفراد بالسلطة. فترة تكثر فيها الشائعات، والأخبار الكاذبة، والمشاحنات، والصراعات.
ولم يفت الكاتب من توظيف بعض التقنيات الروائية من بينها، الميتارواية، وتكسير السرد بخلق مساحات من الحوار للخلق نوع من الألفة بين الشخصيات، ولإيهام المتلقي بنوع من الواقعية، وتقديم مواقف متضاربة حول المدينة، وطبيعة الحياة بها، وسلوك أفرادها، بحيث بدت أحيانا أنها مخيبة لتطلعات بعض الشخصيات الرواية. في حين كشف عن جوانب مضيئة من الحياة بها حسب ما عكسته العديد من فضاءاتها التاريخية الباذخة والجذابة. كما طرحت الرواية مجوعة من القضايا الاجتماعية المثيرة، من بينها زواج القاصرات ومشكل التحرش بهن، وتعدد الزوجات، والمعاناة الصامتة للنساء بسبب الحرمان والهجر، وظاهرة الدعارة، والاحساس بالإقصاء والنبذ من طرف المجتمع.
(°) روائي، قاص وناقد
إحالات:
البشير الأزمي، وجع الجذور ، رواية، الفصلة للنشر، طبعة 2022
حسام الدين نوالي المدينة في الكتابة الروائية -من المكان إلى النص-نقد، ص 116،  منشورات ليلى ط1/2022
جماعة من المؤلفين، شعرية المكان في الأدب العربي، بطرس الحلاق، وروبن أوستل، وستيفن فيلد، عماد عبد اللطيف، ونهى أبو سديرة، ص 258 المركز القومي للترجمة- القاهرة، مصر ، ط1/2014
غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، بيروت 1984
error: