البناء السردي في رواية “ملحمة روسيو” للكاتب المغربي عبد الكريم عباسي

263٬430
  • عزالدين شافي

1. الشخصية الإشكالية المركبة

تخضع رواية “ملحمة روسيو” لمجموعة من العناصر الفنية التي تساهم في تشكيلها بالصيغة التي يحددها لها المؤلف من خلال رؤيته الفلسفية والفنية وطريقة سرد الأحداث واختيار الأمكنة والأزمنة والشخصيات الفاعلة.. وغالبا ما نجد تباينا ملحوظا في كل نمط روائي، فقد تصادفنا روايات عقيمة المحتوى غارقة في السرد العشوائي أو الغوص في تفاصيل وجزئيات جانبية لا تشد انتباه القاريء …وأحيانا تشدنا الرواية بجمالية سردها وجاذبية موضوعها وشخصياتها المركبة .
رواية “ملحمة روسيو” من جملة الروايات القليلة التي تتناول إشكالية المثقف في المجتمع وما يعانيه من انفصال وغربة وعزلة خارجية تجعله ينغمس في عوالمه الخاصة التي تحدد كينونته الوجودية المختلفة عن التصورات السائدة والأفكار العامة الرائجة في محيطه الاجتماعي….
اختار “عبد الكريم عباسي” البرتغال وإسبانيا كفضائين لهذه الرواية، لأن جل الأحداث تقع في لشبونة وإشبيلية، مستحضرا من خلالها المقومات التاريخية والحضارية لكلا البلدين الجارين اللذين تجمعها روابط ثقافية وتاريخية مشتركة،  وداخل هذين الفضائين يستحضر السارد كل المكونات الثقافية التي تجسد هذه الهوية بكل تنوعاتها وتجلياتها الفنية المختلفة … سواء من حيث وصف المعالم العمرانية التاريخية أو من حيث الموسيقى العريقة التي تجسد هذا العمق التاريخي للحضارتين البرتغالية والإسبانية (لشبونة وإشبيلية)..
لعل أهم عنصر في هذه الرواية الذي يلفت انتباه المتلقي هو ربط كل الأحداث بشخصية “خوسي” مؤلف “ملحمة روسيو” وزوجته ” كاتالينا” وحبيبته “إلينا” ، فخوسي مثقف وفنان موسيقي بارع يعشق الحياة والكتابة وانشغالاته الثقافية متعددة، لكنه في نفس الوقت يشعر بالاغتراب والفشل في خلق سعادة أسرية مع رفيقة عمره، يعاني من عزلة واغتراب في بيته مع زوجته التي تعاني من برود عاطفي واضطراب سيكولوجي مستمر ينغص حياته واستقراره النفسي لكنه يجد نفسه مكرها  لتعويض هذا الفشل العاطفي بالموسيقى وكتابة الرواية والغوص في عمق الشخصيات التي يختارها بدقة لهذه المؤلفات الروائية..
يبدو خوسيه في هذه الرواية شخصية مركبة يتداخل فيها السيكولوجي والاجتماعي والثقافي والعاطفي، ولقد تمكن  المؤلف أن يقدمه للقارئ في وضعيات سيكولوجية مختلفة على شاكلة لوحة تشكيلية مختلفة الألوان، فتارة يكون فيها هادئا رزينا مع زوجته وتارة يبدو كئيبا غارقا في همومه الداخلية حينما يجد نفسه في عزلة عاطفية عن زوجته، وتارة أخرى نجده غارقا في تأملاته الفكرية التي جعلت منه كاتبا عبقريا مرموقا ومشهورا في البرتغال

2. بنية المكان وتجلياته السيميولوجية

لكل رواية فضاء لا يمكن الاستغناء عنه أو إغفاله أثناء كل قراءة نقدية لأنه يعتبر ذروة المنجز الروائي الذي لا يتحقق إلا بوجوده، فهو الذي يساهم في تحريك الأحداث وتناميها عبر سيرورة السرد وأفعال الشخصيات …، كما يساعد على تحريك خيال المتلقي …وغالبا ما يحاول كاتب الرواية أن يختار الفضاء المناسب الذي بإمكانه أن يترك انطباعا جماليا في نفسية القارئ …
والمكان في الرواية ليس جامدا وقارا لأنه يتميز بالثنائيات الضدية والانغلاق والانفتاح ، كما يوحي بالقلق والحزن أو البهجة والسرور وكل ما يخالج النفس من خواطر وتأملات ،وقد يتجاوز ما هو واقعي وهندسي ليتحول إلى فضاء مجازي حينما يتم تشكيله لغويا بجملة من المشاعر والانفعالات والتصورات  التي يبعثها المؤلف في عمق المعاني المضمرة التي تحول المكان الحقيقي إلى مكان سيميائي وينتقل من صورة بصرية إلى صورة لغوية..
أحداث ملحمة روسيو متنوعة ومركبة ومتداخلة ،تمزج بين السيكولوجي والرومانسي والثقافي والتاريخي وبالتالي لا يمكن تحديد موضوعها بشكل دقيق إلا بتتبع كل المتواليات السردية متكاملة  ..وهذا التنوع التيماتي هو المحفز على متابعة سيرورة الحكي من وضعية البداية الى النهاية ….
بطل الرواية ‘خوسي” الكاتب البرتغالي الشهير يعيش اغترابا وعزلة مع زوجته، يكابد ويجاهد من أجل تحقيق توازن سيكولوجي بين رغباته الذاتية ورغبات زوجته العنيدة ،يتابع الأحداث عبر تقنيات التواصل الاجتماعي ، يقرأ باستمرار
منشغل بإنجاز عمل أدبي “ملحمة روسيو”.، وهذا التنوع والاختلاف في شخصية خوسي يقتضي حتما  تنويع المكان من لحظة إلى أخرى وفق تسلسل زمني تفرضه السيرورة الحكائية ومنطق الأحداث المتسلسلة والوضعية المناسبة لتحرك الشخصية
لا يحضر المكان في ملحمة روسيو باعتباره مجالا هندسيا أو طبوغرافيا فقط ،بل يتحول إلى مجموعة من الدوال والرموز القابلة للتأويل والتأمل في الإيحاءات والرموز الخفية خلف اللغة الظاهرة  وهو ما سنكشف عنه من خلال حضور مدينتي لشبونة وإشبيلية..
تتجلى مدينة لشبونة بجمالها العمراني ومقاهيها ومطاعمها وحدائقها وما تزخر به من تراث تاريخي يجسد الهوية الثقافية للشعب البرتغالي المتشبث بموروثه الثقافي المتنوع، ولقد ساعد الوصف الدقيق على نقل هذا المكان من مستوى بصري محسوس إلى صورة ذهنية تحيل على جملة من  الرموز المضمرة، ليتحول المكان الواقعي بمكوناته ومحتوياته إلى علامة سيميائية تحيل على دلالات سيكولوجية واجتماعية وتاريخية..
وهكذا تتحول مدينة لشبونة إلى بعد من أبعاد التاريخ البرتغالي العريق، وهو ما تحيل عليه ملحمة روسيو التي كتبها خوسي من أجل رد الاعتبار لهذا التاريخ الوطني …ولا يقتصر الأمر في هذا الحضور الرمزي للمكان على مدينة لشبونة فقط ، بل يتجلى أيضا في مشاهد سردية أخرى مختلفة حينما انتقل خوسي من لشبونة الى إشبيلية للقاء حبيبته “إلينا “بعدما أخفى سبب سبب سفره عن زوجته ليتخلص من ضغوط العمل المهني المسترسل وجحيم البيت والزوجة ورتابة الحياة اليومية التي لا تنتهي
إن  فضاء “إشبيلية” المجازي كما تم تحديده من خلال رؤية السارد يحيل على الرومانسية والانشراح والتحرر من ضغوطات البيت والزوجة واقتناص لحظات المتعة الحميمية مع “إلينا” في أحد الفنادق الفخمة …ويتحول من مكان جغرافي واقعي إلى مكان تاريخي يجسد هوية وحضارة عريقة ، ويبرز البعد الحضاري في ما تركه المسلمون من آثار عمرانية تشهد على النبوغ والعبقرية …تبرز الخيرالدا وقصر المعتمد بن عباد والمطاعم العربية والموسيقى الشرقية والأندلسية  وجمال الشوارع والأزقة ….، وكل ما يحيل على الهوية والتاريخ والثقافة والفنون الشعبية الشاهدة على فترة الحكم العربي في بلاد الأندلس..
هكذا تمكن الأستاذ عبد الكريم عباسي في هذه الرواية أن يركز على الوصف الدقيق للمكان، وأن يلائم بين واقعيته ورمزيته وأبعاده البلاغية حتى  لا يصير مجرد ديكور جامد يتم توظيفه من أجل التزيين فقط..

3. تنوع الشخصيات وتداخل الأصوات السردية

يقتضي البناء السردي للرواية تنسيقا وترتيبا دقيقا للأحداث وربطها بالشخصيات والزمن والمكان وفقا لمقصدية المؤلف ورؤيته الفلسفية ، فقد يكون المؤلف ناجحا في هذا التصميم السردي ويمنح العمل الأدبي قوة تأثيرية وجمالية كما قد لا يكون موفقا في ذلك وبالتالي لا ترقى الرواية إلى ما كان ينتظره ….
معلوم أن نجاح الرواية لا يكمن في الفكرة أو الموضوع او القضية المعبر عنها داخل المتن الحكائي،بل يتجلى بالدرجة الأولى في اللغة السردية  والأسلوب والوصف واختيار الشخصيات المتناقضة التي بواسطتها يتم إدماج مختلف التصورات والرؤى المعبر عنها …ويبقى المؤلف مجرد صوت من مجموعة من الأصوات الحاضرة
ونحن بصدد قراءة هذا المنجز الروائي لا بد وأن نتطرق لهذه الظاهرة الروائية التي ركز عليها مجموعة من المهتمين بالفنون السردية كباختين ورولان بارت وغيرهما ممن اهتموا بملامح الاختلاف بين شخصيات النص الروائي … حيث اعتمد المؤلف على السرد التسلسلي المترابط مع تنويع في الأزمنة والأمكنة والشخصيات حتى لا يشعر القارئ بالرتابة والفتور ويظل مشدودا للأحداث والشخصيات ..
ورغم كونه اختار السرد بضمير الغائب ووجود سارد عالم بكل ما يقع يحكي ويعلق ويصف، فإن ذلك لم يمنعه من التدخل في عملية السرد بفسح المجال لمجموعة من الشخصيات للتعبير بحرية وتلقائية عن تصوراتها وأفكارها ومشاعرها تارة عن طريق الوصف الداخلي والخارجي، وتارة بواسطة الحوار وتبادل الكلام ،مما يجعل القارئ في مواجهة مباشرة مع الشخصية لكي يتمكن من معرفة أفكارها وعواطفها دون تدخل من السارد العالم بكل شيء …كما ساهم هذا الحوار في تكسير الرتابة السردية ومنح الرواية جمالية ومتعة وتشويقا وإثارة
رواية “ملحمة روسيو” تقدم لنا صورة درامية عن الأحداث التي عرفها العالم إبان مرحلة كورونا وانعكاسات هذا الوباء على إيقاع الحياة عبر مختلف أرجاء المعمور…ومن جهة أخرى تغوص في مجموعة من القضايا الاجتماعية والعاطفية الإنسانية ومحنة المثقف وعلاقته بمحيطه الاجتماعي، وما دامت الرواية مركبة من تيمات مختلفة ومتداخلة فكان من اللازم الفني التنويع في الشخصيات وتوزيع السرد حسب مقام كل حدث وزمان ومكان، وهو ما سنوضحه بايجاز حسب طبيعة كل شخصية من شخصيات الرواية وحسب السياق الروائي الذي تنجز فيه أفعال هذه الشخصيات..
تختلف شخصيات “ملحمة روسيو” اختلافا كبيرا في أفكارها وسيكولوجيتها ونظرتها للحياة ،وهذا التباين الفكري والوجداني هو ما دفع المؤلف ليضع كل شخصية مباشرة أمام القارئ دونما تدخل من الراوي، ليكشف من خلال صوتها ما يجول في أعماق ذاتها ومن جملة الأصوات التي نسمعها يمكن أن نشير من أجل التوضيح إلى ما يلي:
خوسي: كاتب ومؤلف روائي ذائع الصيت في البرتغال يعاني من الحزن والكآبة ….ويبدو غريبا في بيته غارق في التأمل ومتابعة منشورات العالم الافتراضي
كاتالينا: شخصية انفعالية ومنعزلة تعاني من الوحدة خصوصا بعد سفر توأميها إلى الولايات المتحدة من أجل الدراسة …وصوتها في الرواية لا يتغير/ بيدرو وخوسي: تجمع بينهما علاقة حب ومودة وتقدير(بيدرو صاحب المكتبة الشهيرة في لشبونة الذي كان له الفضل في تكوين شخصية خوسي)..
خوسي وإلينا: علاقة حب رومانسي تغلب عليه اللغة العاطفية والرومانسية والشعرية …. يختلف كثيرا عن علاقة *خوسي وزوجته كاتالينا الذي يتجلى من خلال الحوارات المتشنجة الكثيرة بين الشخصيتين …(حوار صاخب ومستفز وعنيف يخلو من الود والحب والحنان ) يعقبه وصف داخلي تكميلي يشخص وضعية الانفصال العاطفي والعزلة الفردية لخوسيه : “تلاشت أحاسيسهما ،وكأنما لم تعد تعني لهما أي شيء ، فانفصلت روابطهما ،وفكت رموزها وأعلنت موتها، قل الحديث والاهتمام ببعضهما البعض ،وغابت الكلمات العاطفية الجميلة التي تحرك الأحاسيس وتقوي الاواصر..” ص/21
وهناك أصوات كثيرة في الرواية ولكنها عابرة وموجزة جاءت في سياق السيرورة السردية كتكملة للحوارات المركزية….وجميع هذه الأصوات الحاضرة في الرواية جعلت القارئ متأملا منصتا متابعا لمسار الحكي حتى تتشكل في ذهنه الصورة الحقيقية لكل شخصية من هذه الشخصيات المختلفة

4. الهوية والتاريخ الأندلسي

قبل تناول هذا المحور الخاص بتوظيف المكون الحضاري والتاريخي في هذه الرواية لا بد لنا من الحديث عن بعض المفاهيم التي تستدعي سؤال: ماذا نعني بالتاريخ والهوية؟ وكيف تم توظيفهما في السرد الروائي العربي …؟؟
الهوية والتاريخ عنصران متلازمان ومتداخلان ولا يمكن الفصل بينهما، فالتاريخ هو الخزان الذي تصان فيه منجزات الشعوب وهو القادر على صيانة كل ما تركه الأجداد عبر الحقب والعصور …أما الهوية فهي كل الخصائص والمميزات التي تميز الشيء أو الفرد أو الجماعة عن غيرها ، فهي بمثابة البصمة التي تميز نمط حياة الجماعات البشرية …فكيف تعاملت الرواية العربية مع هذا الموضوع ؟؟؟
من المعلوم أن الفن الروائي والقصصي هو بالدرجة الأولى فن يتناول كل ما له علاقة بالإنسان والثقافة والتاريخ والجغرافيا والدين والعادات والتقاليد الجماعية ..، ذلك لأن الرواية هي الجنس الأدبي القادر على مناقشة كل القضايا التي لها علاقة بكينونة الإنسان، فهي التي تستوعب جل الظواهر والأفكار والسلوكيات البشرية المختلفة والمتنوعة، لأن السرد الروائي ليس مجرد ترف فكري من أجل المتعة وتحريك المشاعر والعواطف فقط، والرواية العربية عموما لا تنفصل هي الأخرى عن تناول مثل هذه القضايا الإنسانية المشتركة بين شعوب المعمور..
وقد نجد ذلك في الكثير من الأعمال التي تناولت موضوع الهوية والدين والعروبة والعلاقة مع الغرب (لن نتحدث عن ذلك في هذا المقام) ، بل سنحاول ملامسة ما تضمنته رواية “ملحمة روسيو” لكاتبها عبد الكريم عباسي حول قضايا التاريخ والهوية في بلاد الأندلس، خصوصا البرتغال وإسبانيا كفضائين جغرافيين متقاربين ومتكاملين تتجسد فيهما خصوصيات حضارية وهوياتية مشتركة، وهو ما تمت الإشارات إليه ضمن مسار الحكي والوصف الدقيق الذي ينقل للقارئ كل ما يشتمل عليه الفضاء الروائي من معالم ومآثر سياحية موغلة في العمق التاريخي للحضارتين البرتغالية والإسبانية….
يضعنا السارد أمام مجموعة من المشاهد الدالة على هذا الحضور التاريخي للحضارتين البرتغالية والإسبانية من خلال العمران والموسيقى والشعر الغنائي وما تزخر به إشبيلية من مميزات هندسية للعمارة القوطية والموريسكية وما تركه المسلمون من آثار عمرانية في لشبونة قبل سقوطها في أيدي الكاثوليكيين …ولا يقتصر الأمر على وصف العمران وجمال الهندسة المعمارية، بل نجده حاضرا أيضا في الفلكلور الشعبي والموسيقى العريقة التي تعبر عن وجدان الشعب البرتغالي،  والتي تتجلى في موسيقى “الفادو” (فادو إشبيلية وفادو قلمرية)  التي يعتبرها البرتغاليون رمزا للهوية البرتغالية :“البرتغالي القح يجب ألا يفرط في هويته وأصالته..” ص5
كما يحضر هذا البعد التاريخي والثقافي والفني في ما عرفته البرتغال من أحداث واضطرابات سياسية تمت الإشارة إليها في “ثورة القرنفل” التي تعتبر عيدا وطنيا يعتز به الشعب البرتغالي، وهو ما كان يريده الروائي “خوسي أنطونيو دا سيلفا”  في ملحمته التي انكب على تأليفها والسهر على تدبير كل ما يضمن لها النجاح من أجل تحويلها إلى عرض احتفالي كبير يليق بمكانة هذا الحدث: “وظف خوسي التاريخ بكل دقة وصور كل التفاصيل والمراحل والأشواط التي قطعتها البرتغال للوصول إلى ما وصلت إليه الآن من تقدم وازدهار” (ص85)…لكن إكراهات وباء كورونا وتفشيه في جميع أرجاء المعمور ووفاة زوجة مؤلف الملحمة  نتيجة لهذا الوباء بعثر كل أوراق هذا العمل الفني الكبير، وتم إلغاء حفل “ملحمة روسيو” بأمر من السلطات البرتغالية..
يتجلى حضور الهوية البرتغالية أيضا في الشعرالغنائي الذي يتردد في الشوارع المكتظة بالسياح …كما يبرز في أسماء مشاهير الشعراء و كتاب الرواية البرتغالية الذين تركوا بصمة متفردة في الأدب البرتغالي ،من أجل الكشف عن كل المظاهر الثقافية القابلة للتأمل والمتابعة
لن نتمكن من المزيد في تناول جميع ما تضمنته رواية  “ملحمة روسيو”  من قضايا الفكر والإبداع والفن ولكن يمكن القول: إنها كتابة في التاريخ والجغرافيا والإنسان وهموم المثقف وانشغالاته والانفصال عن العالم ومؤثرات العالم الرقمي ومخلفات وباء كورونا وغوص عميق  في مقومات  التراث البرتغالي الذي يعد جوهر هويته وأمجاده الحضارية..

5. صورة المرأة في الرواية

 الرواية هي فن الشخصيات بالدرجة الأولى، لأنها تعكس موقف صاحبها إزاء المجتمع والحياة ونمط العيش والعلاقات السائدة في المحيط الاجتماعي الذي يتفاعل معه الروائي وكاتب القصة والمؤلف المسرحي، وتقاس جودة الرواية بمدى قدرة وبراعة المؤلف في تركيب كل المقومات الفنية وفقا لنمط سردي يراعي جمالية اللغة السردية والأسلوب والوصف والحوار وكل ما من شأنه أن يساهم في خلق متعة جمالية للمتلقي للخطاب الروائي، لأن الفن الروائي يرصد قضية إنسانية واجتماعية وأخلاقية وفكرية وسياسية وتاريخية يسعى لتقديمها إلى القارئ في قالب فني تتوفر فيه عناصر الجمال الأدبي، ولا يمكن للمؤلف الروائي التعبير عن كل هذه القضايا الإنسانية المركبة والمعقدة إلا من خلال تكامل وتفاعل الشخصيات فيما بينها..
في هذا الصدد ونحن نتابع التأمل والتفكير في رواية “ملحمة روسيو”، لا بد لنا من تناول شخصياتها ورصد أفكارها وتصوراتها ومشاعرها وعلاقتها المتعارضة مع بعضها البعض من أجل تعميق البحث والتأمل في جماليتها السردية .. وتحضر المرأة ضمن هذه الرواية في صورتين مختلفتين ومتعارضتين:
صورة المرأة الحزينة المكتئبة المنفصلة عن أسرتها وزوجها وصورة المرأة الرومانسية المثقفة العاشقة للفن والأدب والسفر والاستمتاع بمباهج ومتع الحياة (الزوجة والعشيقة)/ كاتالينا: زوجة المؤلف الروائي”خوسي دا سيلفا” التي تفضل أن  تعيش حياة العزلة والانفصال والانغلاق وإهمال واجبات العلاقة الحميمية التي تقوي أواصر الحب والود بين الزوجين… وتحضر في مجموعة من المشاهد السيكولوجية المختلفة، ولقد تمكن السارد أن ينقل للقارئ صورة متكاملة عن هذه المرأة المتمردة التي تنغص الحياة الأسرية عن زوجها “خوسي”الروائي الكبير والموسيقي المنشغل بالفن وتأليف الروايات التاريخية التي من خلالها يستحضر أمجاد الشعب البرتغالي/ إلينا: العشيقة المثقفة الولوعة بالفن والأدب والقراءة والاستماع إلى الموسيقى العريقة المجسدة الهوية القومية البرتغالية
في هذه الرواية تحضر “إلينا” العشيقة الرومانسية  في زمنين وفضاءين مختلفين :زمن اللقاء في مكتبة بيدرو الشهيرة في لشبونة / وزمن اللقاء في إشبيلية، يستحضر “خوسيه دا سيلفا” علاقته مع هذه الفتاة حينما كانت تأتي إلى المكتبة لاقتناء الكتب وروايات كبار الروائين البرتغاليين، لكن لظروف خاصة ومجهولة غادرت لشبونة وانتقلت إلى مدينة “بورتو” للاشتغال في مختبر التحليلات الطبية ثم رحلت إلى “روما” وتزوجت من رجل ألماني متورط في قضايا الاتجار في الممنوعات فقررت الانفصال عنه لتنعم بحياة مستقرة وهادئة ولتنعم بحرية تامة تمكنها من متابعة حياتها دون قيود زوجية قاهرة..
يتواصل “خوسيه” مع “إلينا” عبر تقنيات التواصل الرقمي  ويتبادلان الرسائل والمكالمات الهاتفية المصورة خفية عن “كاتالينا” لينتهي اللقاء بينهما في إشبيلية في لحظات حميمية ورومانسية متحررين معا من محنة زواج فاشل لا يخلق السعادة الداخلية لكليهما …. كما تحضر “إلينا” في صور مختلفة، ولقد تمكن السارد من الغوص في أعماق وجدانها والكشف عن أسرارها من خلال الحوارات الطويلة مع “خوسيه “،فهي تارة منشرحة ومسرورة وعفوية وتارة حزينة حينما تستحضر محنتها المريرة مع الاغتصاب الوحشي ومعاناتها مع زوجها الألماني …وحينما تم إلغاء رحلة السفر الجوي إلى إيطاليا بسبب تفشي وباء كورونا ..
لقد قدمت لنا هذه الرواية صورتين مختلفتين عن علاقة الرجل بالمرأة (علاقة انفصال عاطفي وعلاقة اتصال عاطفي) بين امرأتين مختلفتين فكريا ونفسيا واجتماعيا
error: