قاسم لوباي شاعر استثنائي يعشق الحكايات المخبوءة بكل أصوات الرفض وطقوس الهامش (°)

منح وردة لإنسان أفضل من وضع باقة ورد على قبره

18٬417
  • أحمد بيضي 
تشاء الصدف أن يتزامن الحفل تكريم الشاعر قاسم لوباي، بخنيفرة، مع اليوم العالمي للشعر، وكاد أن يصادف أيضا فصل الربيع الذي غاب عنا بغياب الغيث وحرمنا من رائحة شقائق النعمان والأقحوان والياسمين، وما علينا إلا مواصلة الفرح ومعانقة كل ما هو جميل ما دام على “هذه الأرض ما يستحق الحياة” كما قال الشاعر محمود درويش الذي خلد العالم ذكرى مولده قبل أسابيع قليلة.
علينا أن نكشف عن عشقنا للكلمة  الجميلة ونحن نحاول تحطيم الطابوهات والمحرمات، ونحاول قهرا نسيان ما يعيشه عالمنا من خراب ودمار وإحباط وألم وبؤس وإرهاب وعنف، ومن أنين الأطفال الجوعى واليتامى واللاجئين، وكذلك من قيود ثقيلة على التعبير، ومن عولمة كاسحة وحيف سياسي وفكري واجتماعي، ومن بيع وشراء في الإنسان، ومن ذكاء منافس لذكاء هذا الإنسان.
في اللحظة الوفية للاعتراف نقول مع الشاعر الكبير محمود درويش، “ليس من عادتنا أن نكرم الأحياء”، ونحن في ضيافة “مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام” الذي أبى إلا أن يتحدى الإجحاف مرة أخرى، ويعلن إيمانه ب “منح وردة للإنسان أفضل من وضع باقة ورد على قبره”، وذلك بتخصيص ليلة من ليالي الشهر الفضيل ل “شاعر الضفة الأخرى”، قاسم لوباي، الذي ندعو له جميعا بالشفاء العاجل حتى يعود لأصدقائه وأشعاره وطقوسه وعزلته وأوراقه ومقعده اليومي بزاوية مقهاه، وكذا لصفحته بالفضاء الأزرق، ولمدينته الحمراء التي تربطه بها ما يشبه الحبل السري الذي يربط الجنين برحم أمه قبل استنشاقه لأنفاسه الأولى.
قاسم لوباي الذي تشكل له مدينة خنيفرة ذلك “الفضاء المفتوح والذاكرة الموشومة بالكثير من الصور التي تنعكس بالسلب وبالإيجاب، صور تتداعى بالجميل والمحزن على السواء”، على حد ما قاله في حوار أجراه معه القاص والناقد، حميد ركاطة، ذات يوم، ووصف المدينة ب “التي أصابها التغيير والتشويه” هو نفس الحال الذي طاله كعاشق لها.
ومن خلال مدينته يسترجع ما يمكن من ذاكرته وأشعاره وكتاباته وكأنه “طفل صغير يبحث عن طفولته في أزقتها الملتوية والمظلمة”، وعن الحكايات المخبوءة ومكامن العِلّل والحنايا الداكنة في هدوئها الموسوم بالصخب، وهو من بين الشعراء الذين يحلمون بالحب كأول وآخر حل لمعالجة مشاكل العالم، ولا يرضى أن يُوضع شعره في دائرة ضيقة، مقابل معانقة كل من يحتضن كلماته في أفق إنساني واسع، وكان قد حاول الدخول بقلمه في تجربة كتابة القصة القصيرة بعد نشره لنص قصص  بجريدة “لوبينيون” المغربية سنة 1982، وما فتئ أن عاد لأصله الشعري.
الشاعر قاسم لوباي، الملقب باسمه الإبداعي “شاعر الضفة الأخرى” على خلفية كتاباته بلغة بودلير، وبأسئلة تتجاوز حدود الزمان والمكان، وقد جاء التحول عند تفكيره، خلال شتنبر 1980، في نشر أعماله على رفوف مكتبات العالم، عبر تقدمه، أول مرة، بديوان له لدار النشر الفرنسيةpoésie un ، إلا أن طموحه تحطم بسبب تكاليف النشر والتوزيع.
ثم عاد ثانية ليصر على “تجربة نشر أعماله”، بدار نشر أخرى هي دار“la pensée universelle” ، من خلال تأبطه، عام 1983، لديوان بعنوان voix du.. refus (أصوات الرفض)، غير أن سفينته جرت مرة أخرى بما لم تشته رياح حلمه فحمل ألمه المسيّج بالحب واحتمالات الحياة، ولم يترك باب إرادته مفتوحا للإحباط، حيث حرص على أن يثبت للجميع بأنّ ما يكتبه يستحق النشر، وواصل كتابة أشعاره التي تجاوزت 600 قصيدة، منشورة إما افتراضيا أو ورقيا.
وكان قد بدأ نشر نصوصه الشعرية خلال نونبر سنة 1971 بعدد من الصحف المغربية، وشارك في عدة ملتقيات أدبية وشعرية، وله خمسة دواوين شعرية، هي  cité-métaphore(مدينة الاستعارة)، سنة 2010 عن منشورات ملفات تادلة (بدعم من “جمعية تايمات” ومساعدة نادي روطاري نيس بفرنسا)، ثمdes toiles…apériodiques (لوحات لازمنية)، سنة 2012 عن منشورات دار الوطن،!.. voguent les poètes (ويبحر الشعراء)، سنة 2014 عن منشورات ديهيا، وبعده dialogue avec la nuit (حوار مع الليل)، سنة 2017 عن منشورات مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام، Poésies en exil (أشعار في المنفى) سنة 2022، وكل هذه الأعمال تطوع فنانون في تصميم أغلفتها، من قبيل مصطفى قصطال، المحجوب نجماوي ومصطفى التجاني، إلى جانب الزجالين توفيق لبيض وسعيد بوطرين.
كما شارك افتراضيا في أعمال جماعية عديدة “agora no 10, la plume libre, arkia web, les liens utiles, cœur romantique oxy mort  وغيرها، ورغم مشاركته الفعالة في جميع أطوار ومراحل الإعداد والكتابة، فقد سبق لقاسم لوباي أن أعرب عن تأسفه لعدم توصله، ولو بنسخة واحدة، من هذه الأعمال الجماعية، فيما لم يتخلف، سنة 1980، عن المشاركة في أنطولوجية شعرية باللغة الفرنسية مع المركز الثقافي الفرنسي بطنجة،“ni temps perdu ni terre promise”  وهذا العنوان، حسب قوله، مقتبس من عنوان ديوان مشترك في إطار عمل حول الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية.
والمؤكد أن شاعرنا ما يزال في حبره ما يستحق الولادة والعطاء بكل معاني الجمال والتعبير، وبينما تساءل يوما في حوار مع يومية “المنعطف” المغربية: “ما ذنب من قال شعرا في هذا الوطن؟ هل ذنبنا أننا كتبنا وتكلمنا لغة غير التي تتكلمها الأغلبية؟”، لا ننسى بالمقابل أن اقترحت عليه نسبة عالية من قرائه الدفع باتجاه ترجمة دواوينه للغة الضاد، وخلالها نشر تدوينة له على “الفايسبوك”، في الثامن من أبريل 2016، يبحث فيها عمن يمكنهم التطوع لترجمة دواوينه للغة العربية.
ذلك في الوقت الذي رأى، في حوار آخر معه، أن “كتاباتِه صعبة بعض الشيء وربما هي نتيجة حتمية لقراءاته المتنوعة والمتعددة للأدب الفرنسي”، وفي نفس الحوار سجل “عدم مساءلته من طرف أي صحفي عن أعماله التي لم تترجم إلى اللغة العربية”، ما اعتبره “نسيانا له كشاعر يعيش في منفى سحيق داخل كيانه وخارجه”، وقال معلقا “لو كنت خارج هذا الهامش الثقافي في مدينة أخرى لكان الوضع متغيرا”.
وكم حاول بكل قوته أن يسكن الشعر، غير أن الشعر سكنه حين اختار رصد تقلبات الواقع بكل تجلياته، وقد اختطفته أوراق الشعر منذ ماضي السنوات التي كانت فيها الكتابة شكلا من المغامرة المفتوحة على مداخل الزنازن وغرف المحققين وتأويلات المخبرين، ورغم التحاقه بمهنة التعليم، ثم تدريس مادة التربية البدنية بالسلك الثانوي، عرف قاسم لوباي كيف يحطم قانون الإقصاء والتهميش، ويكسر قيد الهامش، بل وكيف يهرب بقصائده من واقع يراه غريبا، في كل مرة، ما دام يصف القصيدة ب “الطفلة المشاغبة” على حد ما كرر قوله في أكثر من مناسبة.
وكانت الكتابة سبيله للوجود، حيث لم يتوقف عن نشر قصائده في أنطولوجيات كثيرة، والانخراط في هيئات شعرية دولية، كما شارك في عدة ملتقيات أدبية، وعرفته عدة جرائد ودوريات مغربية صادرة بالفرنسية، على امتداد حوالي خمسة عقود من الزمن، مثل: l’opinion, Al Maghreb, le matin, Al Bayane Magazine, Libération, milafat tadla, l’avenir). ، ولا تفوتني الفرصة لأشكره على إهدائه لي قصيدة بعنوان la plume تضمنها أحد أعماله المنشورة.
ظل قاسم لوباي يعشق أي مكان هادئ يمارس فيه عزلته ويشعر فيه بإنسانيته ووجوده، ويبتعد فيه عما قد يخدش كرامته التي ظل يحافظ عليها بأعرافه المعتادة، ومن ذلك إما غرفته ببيته، أو بدكان شقيقه الذي يزاول مهنة إصلاح الدراجات، ولكن زاويته بمقهاه المألوفة هي المكان المقدس بالنسبة إليه، وقد فات له أن قال في لقاء له مع منبر “الحوار المتمدن”، صيف عام 2012، بأنه “كتب أغلب أعماله الشعرية بالمقهى وفي نفس المكان بل وفي نفس الطاولة، وهو مكان مفتوح على صخب شارع يعج بحركة المارة والسيارات”، وفعلا هي عادة ظل عليها في نفس الزاوية، يحتسي قهوته، يطعم عصافيره بفتات “الحرشة” كل صباح، وينتظر وصول الجرائد، فيقتني جرائده اليومية ومجلاته المفضلة، فيغطس حواسه فيها.
وللمقاهي حكايات متعددة وكثيرة، فيما يصعب حصر الكتاب والشعراء الذين كتبوا أعمالهم بها، وكان الكاتب الإيرلندي جورج مور قد قال: إنني لم ألتحق بجامعة أكسفورد ولا بجامعة كمبردج ولكنني التحقت بمقهى أثينا الجديدة”، وما تزال عدة مقاه شاهدة على ميلاد الكثير من الأعمال الإبداعية والفكرية لكبار الكتاب من أنحاء العالم، من أمثال نجيب محفوظ بمقهى “ريش” بالقاهرة، ومحمد شكري بمقهى “نيكريسكو” بطنجة، وأرنست همنجواي بمقهى “لاروتوند”، و“سيمون دي بوفوار” و”جان بول سارتر” بمقهى “دو فلور” “وسيليكت” في باريس، وفرانز كافكا بمقهى “مون تمارتر” ببراغ، وبورخيس بمقهى “تورتوني” ببيونس أيرس، وغيرهم كثير، بينهم كتاب مغاربة من قبيل محمد زفزاف، إدريس الخوري على سبيل المثال لا الحصر.
وخلال السنوات الأخيرة، أخذ قاسم لوباي يقتني بعض المجلات المكتوبة بالعربية، في محاولة جاهدة وناجحة لتقاسم تكوينه الفرنكفوني بطموحه الهادف للتشبع بلغة أحفاد المتنبي، سيما بعد حصوله على جائزة ناجي النعمان 2011، ضمن خمسةٌ وخمسين فائزًا وفائزة، من أصل 1322 مشتركًا ومشتركة من ثلاث وخمسين دولة شاركوا بتسع وعشرين لغة ولهجة.
عشنا مع قاسم لوباي في ملتقيات نظمتها جمعيات محلية لا تقل عن مركز روافد وجمعية الأنصار ومنتدى أطلس، وبينما حضرنا تكريمه في 2010 من طرف “جمعية الأنصار للثقافة”، تحت خيمة “المهرجان الوطني للقصة القصيرة”، عشنا معه، في مارس 2015، عريسا لدورة باسمه، أي الدورة الثالثة ل “المهرجان الدولي للشعر” المنظم من طرف “منتدى أطلس”، بتنسيق مع مجلة الكلمة، حيث تم الاحتفاء فيها بتجربة قاسم لوباي ومساره الشعري الطويل، وتقديم شهادات في حقه عبرت في مجملها عن عمق تجربته وإصراره المستميت على تطوير منجزه الشعري الذي عانقته أجيال النقاد والقراء على السواء.
ومن حظنا الجميل أننا كنا من بين الحاضرين في حفل تكريم هذا الشاعر على هامش أشغال “الملتقى 12 للحديث النبوي الشريف”، المنظم من طرف “المجلس العلمي المحلي”، في أبريل 2018، رفقة ثلة من المبدعين المحليين بقلعتنا الزيانية، ويبقى قاسم لوباي الوجه الشعري الذي نلمس في اسمه أيقونة أي نشاط ثقافي يجري تنظيمه بالمدينة، كما حضرنا حفل نظمه «مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام»، خلال يوليوز 2018، لتوقيع ديوان dialogue avec la nuit (حوار مع الليل) لهذا الشاعر، أي بعد حوالي سنتين فقط من الإعلان الرسمي عن تأسيس مركز روافد، والذي كان قاسم لوباي من بين أعضائه المؤسسين.
كنا قد عانقناه، في نونبر 2017، وهو يشد الرحال لحضور “المهرجان الدولي للشعر”، المنظم بتوزر الواقعة بالجنوب الغربي لتونس، بمشاركة أكثر من 70 شاعرا من مختلف قارات العالم، وبطبيعة الحال عشنا مع صوره وهو في رحلة قصيرة لبلاد فولتير، إذ في الوقت الذي كان فيه الجميع يستمتعون بمناظر وحياة هذه البلاد، كان قاسم لوباي يتأبط أوراقه وقلمه الحبري، ويمارس نصوصه الشعرية، ويتقاسم ما كتبه معنا ومع أهالي البلاد التي كان في ضيافتها.
قاسم لوباي، الذي ينصت أكثر ما يتكلم، يحافظ على سلميته إلى درجة الانفعال، يحرص على وفائه للحياة والإنسان والإبداع، يعشق توثيق اللحظات بعدسة آلته وهاتفه، يتألم لحال الآخرين وحال المظلومين، يحب أسرته بروح كاملة من الأبوة الحنونة، كما ينتقي أصحابه بعناية فائقة، ويختار مع من يتحدث في الشعر والحياة وأحوال المدينة ومستجدات الأخبار، وبقدر ما لم يبحث يوماً عن الشهرة ظل حريصا على أن يظل متصالحاً مع ذاته.
وخلال كل يوم يمر فيه لمركز البريد للإطلالة على صندوقه البريدي رقم 29 عله يتوصل برسالة من قارئ أو شاعر أو صديق، كان دائم التيه في ذاته عله يعثر على حكاية يصنع منها قصيدة، وقد وصفه الشاعر المغربي الراحل محمد خير الدين، عام 1981، ب “واحد من الشعراء الذين يعيشون بعيدا عن الأوساط الثقافية وهم معرضون دوما للإهمال غير المحتمل”.

ــــــــــــــــــــــــ

 (°) كلمة شاركت بها، مساء الأحد 24 مارس 2024، في حفل نظمه “مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام”، بخنيفرة، تكريما للشاعر قاسم لوباي
error: