أكد رئيس النيابة العامة الحسن الداكي، أن القانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة شكل نقلة نوعية غير مسبوقة في مجال السياسة العقابية داخل المنظومة القانونية ببلادنا، كما يأتي في سياق يعرف مجموعة من المبادرات التشريعية المرتبطة بهذا الموضوع.
وأوضح رئيس النيابة العامة، في كلمة ألقاها بالنيابة عنه الكاتب العام لرئاسة النيابة العامة هشام بلاوي، خلال الندوة المنظمة حول موضوع “العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية: بين التنظيم القانوني وآليات التنزيل” اليوم الخميس 12 دجنبر 2024، أنه إذا كانت العقوبات السالبة للحرية تعرف انتشارا عالميا كجزاء تقره القوانين لتحقيق الردع العام والخاص، فإن الدراسات والتقارير الدولية الصادرة عن الهيئات الأممية، مثل مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة والمخدرات، واللجنة الدولية للعدالة الجنائية والوقاية من الجريمة، تؤكد بأنه على مستوى الممارسة فإن اللجوء العام إلى عقوبة السجن يتصاعد دون إمكانية البرهنة على أن ذلك ينتج عنه تحسن في مؤشرات الأمن والسكينة العامة. ففي العالم حاليا يوجد ملايين السجناء، يتوزعون ما بين معتقلين احتياطيين ومدانين نهائيين، ولا شك أن الأرقام التي لا زالت تسجل سنويا ترسم خطا تصاعدياً في معظم البلدان، كانعكاس موازٍ للدينامية الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي يعرفها عالم اليوم إلى جانب ارتفاع الكثافة السكانية ومعدلات الجريمة.
وشدد المتحدث، على أنه إذا كانت آثار السجن عموما وخيمة وتغرق الدول والأفراد في أعباء مختلفة منها ما هو مادي واقتصادي، ومنها ما هو اجتماعي وأسري، فإن بدائل الاعتقال الاحتياطي والتدابير البديلة للعقوبات السالبة للحرية باتت اليوم ضرورة ومطلباً ملحاً في السياسات العقابية المعاصرة حيث صار اعتماد التدابير البديلة للعقوبات السالبة للحرية من مؤشرات النجاح في تنفيذ السياسات الجنائية، ومطلباً حقوقياً دولياً ووطنياً ومطلباً قضائياً ، من شأن تنظيمها في التشريعات الوطنية والعمل على تسهيل تفعيلها على الوجه المنشود أن يسهم في التخفيف من الآثار الوخيمة للعقوبات الحبسية قصيرة المدة، لا سيما تلك المرتبطة بتفاقم مشكل الاكتظاظ الذي تعرفه المؤسسات السجنية، والذي أضحى يؤرق السياسات العمومية والمؤسسات القائمة على تنفيذ النظم العقابية، دون أن نغفل – بطبيعة الحال – عما لهذا الصنف من العقوبات من تأثير سلبي مباشر على حسن سير ونجاح برامج إعادة الإدماج.
أشار المصدر طاته، إلى أن موضوع بدائل العقوبات السالبة للحرية كان حاضراً ضمن محاور النقاشات العمومية والقانونية التي عرفتها بلادنا بخصوص إصلاح منظومة العدالة، حيث أفضت التشخيصات الدقيقة التي أجريت في عدة محطات كبرى، أبرزها الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، إلى ترسيخ القناعة بتبني إصلاح جذري عميق يستشرف مستقبلاً يواكب التوجهات الحديثة للسياسة الجنائية، الرامية في جزء مهم منها إلى تنويع رد الفعل العقابي تجاه الجريمة، عبر سن خيارات تشريعية بديلة ومتنوعة تمكن من تفادي وتجاوز سلب الحرية، سواء قبل المحاكمة أو خلال النطق بالعقوبة أو في مرحلة تنفيذها. وهو ما أكده جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده في خطابه السامي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب في 20 غشت 2009، حيث حدد جلالته المجالات ذات الأسبقية لإصلاح منظومة العدالة والتي من بينها تحديث المنظومة القانونية، لاسيما ما يتعلق بضمان شروط المحاكمة العادلة وبدائل العقوبات والطرق القضائية البديلة، حيث قال جلالته: (وهو ما يتطلب نهج سياسة جنائية جديدة، تقوم على مراجعة وملاءمة القانون والمسطرة الجنائية، ومواكبتهما للتطورات، بإحداث مرصد وطني للإجرام، وذلك في تناسق مع مواصلة تأهيل المؤسسات الإصلاحية والسجنية. وبالموازاة مع ذلك، يتعين تطوير الطرق القضائية البديلة، كالوساطة والتحكيم والصلح، والأخذ بالعقوبات البديلة). انتهى النطق الملكي السامي.
وإيماناً منها بأهمية الدور الذي يمكن أن يساهم به تفعيل العقوبات البديلة في التخفيف من ظاهرة الاكتظاظ في السجون ومساعدة المحكوم عليهم على الاندماج في محيطهم الاجتماعي، شدد المسؤول على أن رئاسة النيابة العامة تستحضر أهمية التكوين في هذا المجال باعتباره أحد المداخل الأساسية لتوفير بيئة خاصة قادرة على التنزيل الأمثل لتطبيق العقوبات البديلة بمختلف أنواعها. مشيدا بالقانون رقم 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة، والذي كان موضوع مقاربة تشاركية موسعة يرجع الفضل في تبنيها إلى السيد وزير العدل، مما مكن من إثراء النقاش بشأنه وفتح المجال لجميع المؤسسات المعنية لإبداء تصوراتها وموقفها ومقترحاتها حول مقتضياته.
وأوضح أن هذا القانون جاء بمقتضيات جديدة أدمجت في القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية، في انتظار إدخال التعديل الشامل على هذين القانونين، والذي يعتبر عملا طموحاَ يروم تحديث الترسانة التشريعية الوطنية بغية ملاءمتها مع المعايير المعتمدة دولياً، وتعزيز عمل السلطات القضائية ومؤسسات العدالة الجنائية لتحقيق مكافحة ناجعة لأنواع محددة من السلوك الإجرامي، وفق مقاربات مندمجة ومتكاملة بشكل يتجاوز التداعيات السلبية للاعتماد الكلي على العقوبات السالبة للحرية.
وأضاف “كما أسند هذا القانون للنيابة العامة، إلى جانب المحكوم عليه أو دفاعه أو الممثل الشرعي للحدث، صلاحيات متعددة تمارسها بمناسبة تطبيق أحكامه كأن تلتمس من المحكمة استبدال العقوبة الحبسية المحكوم بها بعقوبة بديلة أو أكثر. كما عهد إليها بإحالة المقرر القاضي بعقوبة بديلة بعد اكتسابه لقوة الشيء المقضي به، إلى قاضي تطبيق العقوبات الذي يتولى السهر على تنفيذ إجراءات هذه العقوبة. بالإضافة إلى صياغتها لمستنتجات تقدم إلى قاضي تطبيق العقوبات قبل الفصل في جميع المنازعات المتعلقة بتنفيذ العقوبات البديلة أو وضع حد لتنفيذها، وعند إصدار هذا الأخير لجميع القرارات والأوامر المتعلقة بها إلى غير ذلك من الصلاحيات. وهو الأمر الذي يقتضي من قضاة النيابة العامة أن يساهموا في تفعيل هذا القانون وأن يحرصوا على التطبيق السليم والعادل لأحكامه وفق ما هو معهود فيهم من مبادرة وجدية وتفان ووفق ما يمليه عليه ضميرهم المهني وواجبهم الدستوري، كما ستعمل رئاسة النيابة العامة من جهتها على تتبع ومراقبة مدى إعمال هذه البدائل لبلوغ الغايات السامية التي شُرعت من أجلها.”
وذكر المتحدث، أنه إذا كان قانون العقوبات البديلة يشكل قفزة نوعية في مجال تطوير السياسة الجنائية ببلادنا والتخفيف من ظاهرة اكتظاظ السجون للمساهمة في تحقيق الاندماج الاجتماعي والاقتصادي للمحكوم عليهم، فإن التقائية تحقيق هذه الأهداف تقتضي من منظور رئاسة النيابة العامة التعجيل بتعديل قانون المسطرة الجنائية عبر اعتماد تدابير جديدة بديلة للاعتقال الاحتياطي وتوسيع وعاء الجرائم التي يمكن أن يطبق فيها، وتمكين قضاة النيابة العامة من خيارات أوسع على غرار تلك المتاحة لقضاة التحقيق في إطار المراقبة القضائية، إيماناً من رئاسة النابة العامة بأن من شأن اعتماد مقتضيات قانونية من هذا النوع تمكين قضاة النيابة العامة ومعهم قضاة التحقيق من ترشيد سلطتهم في الاعتقال بما يقوي نجاعة أداء العدالة الجنائية من خلال نهج سبل أرحب لضمان نجاح قانون العقوبات البديلة.
وخلص إلى أن هذه الندوة هي فرصة للتعرف على القانون رقم 43.22 وما جاء به من أصناف للعقوبات البديلة ومختلف الإشكاليات التي يمكن أن يطرحها، وفرصة لتبادل الأفكار والخبرات والاطلاع على التجارب في تدبير العقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية سواء من حيث تنظيمها أو أنواعها أو كيفية الاشراف على تنفيذها والإشكالات التي تطرحها على المستوى العملي ما سيمكن السادة القضاة من استشراف مستقبل تنزيل مقتضيات القانون المتعلق بالعقوبات البديلة.
تعليقات
0