بورتريه من دمنات : حكاية طقم أسنان الحاج ابو الخير
عصام صولجاني
الأحد 8 سبتمبر 2024 - 09:30 l عدد الزيارات : 64966
عصام صولجاني
عصام صولجاني
السيد الحاج أبو الخير، رجل في العقد التاسع من عمره. مربوع القد، حسن المظهر، يلوح بريق مشع من عينيه الضيقتين البنيتين. له ذقن تغطيه لحية بيضاء مشذبة بعناية. وفم تطل منه أسنان ناصعة البياض. عندما يضحك الحاج أبو الخير أو يبتسم، تظهر له أسنان متراصة مثل قطع من البلور. يمشي بتؤدة واستقامة. دون أن يستعين بعكازة. كما يفعل الكثير ممن هم في مثل عمره. يبادل التحايا مع الناس بصوت حسن. وبتعابير منمقة، لا تخلو من نصائح ومستملحات . بعد أن تقاعد من العمل بالمهجر الفرنسي. عاد ليستقر بمدينته . يقضي يومه في المواظبة على الصلاة بالمسجد الكبير وسط المدينة. أو في التسوق، أو مجالسة أقرانه كل يوم بعد صلاة العصر. يعيش الحاج أبو الخير مع زوجته لوحدهما. بعد أن غادر الأبناء نحو العمل بعيدا. إلا أن أكثر ما يثير انتباه الناس في شخصية الحاج أبي الخير ليس تقاعده المريح. أو سلامته البدنية. أو أعمال الخير التي يقدمها لكل عابر سبيل. بل هي أسنانه الناصعة البياض. التي تبدو في فمه أكثر بياضا من أسنان الحليب. سأله أحدهم ذات مرة:
– هل أسنانك طبيعية أم اصطناعية ؟
عقب عليه الحاج مبتسما:
– وأنت كيف تراها؟
– طبيعية يا سيدي الحاج.
– لا بل هي طقم أسنان معمول ببراعة. على يد الدكتور بيريز بعيادته التي تقع بجادة الشانزيليزية بالعاصمة الفرنسية. ولم يبارح طقم الأسنان فمي منذ أن ثبته الطبيب فيه قبل ثلاثين عاما( 30) عاما.
كان الحاج أبو الخير محسودا على طقم أسنانه الجميل. المصنوع بدقة ورقة. ومنظر أسنانه الجذاب، أثار غيرة أصحابه. الذين جعلوا من إحدى جلسات العصر اليومية، موضوعا للحديث عن حكاياتهم مع أطقم الأسنان الاصطناعية. وأخذوا يتحسرون على ردائة أطقم أسنانهم الثخينة. التي لا تتلاءم مع مقاسات أفواههم. يقول أحدهم للحاج:
– طقم أسناني يرقص في فمي رقصة العلوة .
وآخر يحكي له بامتعاض، كيف سقط طقم أسنانه بعيدا مع أول عطسة. وقال آخر بحزن:
– طقم أسناني يضيق علي روحي.
ومن الحكايات الطريفة التي جعلت الجميع يدخل في نوبة ضحك هستيرية. أن أحد الشامتين، وبعدما ضاق ذرعا من سماع شكوى صديقه من قساوة الألم الذي يسببه له طقم أسنانه. نصحه نصيحة من وحي الخيال. طالبا منه بأن يضع بين فكيه بطاريتان من نوع ((السيس)) ويعض عليهما بقوة بفكيه. ثم يربط حول ذقنه وشاحا، ويشده بإحكام فوق رأسه. فطبق المسكين وصفة الشامت بحذافيرها. وخرج إلى الشارع على تلك الهيئة الغريبة. مما أثار عليه سخرية الناس. كان الحاج أبو الخير ينصت بإمعان إلى حكايات رفاقه مبتسما. وأردف آخر بنبرة ضاحكة:
– ذات صباح تسلل فأر ضخم إلى غرفتي. فسرق طقم أسناني وهرب إلى حوش المنزل. وسط المتلاشيات. فتبعته بسرعة وانا أصرخ دون جدوى. وبقيت أبحث عن طقم أسناني المفقود لعدة شهور. حتى عثرت عليه -بالصدفة- داخل تجويف أسفل جدار المنزل. سليما لم تنل منه أسنان الفأر قيد أنملة. فحمدت الله وشكرته.
ضحك الجميع، وانفض السامر، مع رفع أذان صلاة المغرب.
مضى شريط الأيام متسارعا. وذات صباح ممطر من شتاءات مدينة دمنات الكئيبة. فاضت روح الحاج أبي الخير إلى بارئها. فأقيمت له جنازة مهيبة. وشيع إلى مثواه الأخير. بحضور عدد غفير من سكان المدينة. حضر أبناءه وأحفاده وكل غصن من شجرة عائلته الوارفة. وتقبلوا التعازي الحارة في وفاة والدهم. عمدت أرملته إلى التصدق بجل متعلقاته الشخصية. من ملابس وغيرها. وبقي طقم الأسنان الناصع البياض داخل كأس شفاف في دولاب زجاجي. افتقد سكان المدينة ابتسامة الحاج أبي الخير بأسنانه العاجية البيضاء. . وهو يتجه للصلاة بالمسجد الكبير. أو يتسوق بمتاجر المدينة. أو يتبادل الحديث مع أصدقائه، في جلساته اليومية بعد صلاة العصر. وأخذوا يترحمون عليه لذكراه الطيبة.
وبقي طقم أسنان المرحوم يطل على أرملته من داخل الدولاب بشكل مزعج وكأنه يخاطبها متسائلا أين فم الحاج؟ وفكرت في التخلص منه بمكب النفايات. لكنها عدلت عن الفكرة. وأثناء حديثها مع جارتها. حكت لها عن طقم أسنان المرحوم زوجها. وتمنت لو تتصدق به على من يحتاجه من الناس. وروت لها الجارة عن قصة أحد الرجال من أهل المدينة الذي ما أن علم بوفاة أحد رجالات المدينة من العائلات العريقة. حتى ذهب ليطلب من الورثة أن يمنحوه طقم أسنان المرحوم. فقالوا له متأسفين:
– لقد تم دفن المرحوم مع طقم أسنانه.
وذات صباح باكر من أيام الصيف بشهر آب اللهاب. طرق باب منزل المرحوم ابو الخير عابر سبيل، يطلب المساعدة وهو يصيح:
– صدقة لله يا محسنين.
فتحت أرملة الحاج ابو الخير الباب وسألته:
– هل، انت بحاجة إلى طقم أسنان؟
أجابها الرجل المسكين بحماس:
– أجل بكل فرح يا سيدتي
فهرعت أرملة الحاج نحو الدولاب الزجاجي. أخذت طقم الاسنان برفق، وسلمته إلى الرجل الطاعن في السن. تناوله بيدين مرتعشتين، ووضعه على الفور في فمه الأذرد. فكان طقم الاسنان متطابقا مع فمه. مثل تطابق الغطاء مع الزنبيل. وكأنه مصنوع على مقاسه بالمليمتر. ابتسم الرجل وأخذ يصيح بفرح: – الله يرحم الوالدين آلالة الحاجة.
وأخذ يمطر أرملة الحاج ابو الخير بوابل من دعوات الخير والبركات. بشتى الأوصاف والتعابير. وازدادت حيويته، ومن شدة الفرح، هرول مسرعا وكاد ان يسقط على قفاه. ويحدث ما لا تحمد عقباه. وهو يردد:
– الله يرحم الوالدان الله يرحم والديك.
حتى أبتلعه زقاق الحي. ربما كان حلم المسكين هو الحصول على طقم أسنان لفمه الأذرد. فحقق الله له أمنيته بفضل طقم أسنان المرحوم الحاج أبي الخير وأريحية أرملته.