الزلزال والمتسولون الجدد..

85٬725

عبد السلام المساوي

نعم فهم المغاربة في هذه الظروف العصيبة، ظروف كارثة الزلزال الأليمة ، أن هناك مهنة قائمة بذاتها تسمى الصحافة يمارسها مهنيون يسمون الصحافيين ، يعرفون الفرق بين الأجناس المشكلة لهاته المهنة ، لا يكتفون بحمل الميكروفونات في أيديهم ومدها للجميع، ولا يعتقدون أن مجرد التوفر على هاتف نقال جديد هو أمر يعطيك بطاقة الممارسة المهنية، يمضون أيامهم والليالي في مطاردة أخبار الكل هنا وهناك وفي التأكد من هاته الأخبار، أو نفيها قبل نشرها على العموم .
يشتغلون في هيآت منظمة تعطيهم مقابل الحرفة التي يمتهنونها ، وتؤدي الضرائب الكثيرة والواجبات الأكثر ، وتلتزم بقوانين عديدة، وتخضع لضوابط لا حصر لها، وتعاني من منافسة غير شريفة إطلاقا مع الفوضى العارمة وحواسها التي ضربت الميدان في مقتل منذ سنوات كثيرة .
بح صوت المهنيين وهم يقولون ” إننا نحتاج صحافة جادة وجدية يصدقها الناس حين الضرورة …” .
ضاعت الحبال الصوتية للمنتمين المساكين لهاته المهنة يصرخون ” حكاية المواطن / الصحافي في هاته التي يختفي عدد كبير من النصابين والأدعياء خلفها لن تؤدي بنا إلا إلى الهلاك ” ، أصيب المهنيون أخيرا بالخرس بعد أن فهموا ألا أحد يريد تصديقهم وهم يقولون بديهية صغيرة : ” الصحافة مهنة ولا يمكنها أن تكون حظيرة تجمع كل من هب ودب ” .
اليوم ، ها نحن نشرع في الاستيعاب المؤلم لهاته البديهية، والدولة تشرع في الضرب بيد من حديد على كل من يستسهل نشر أي شيء دون أن تتوفر له أية خاصية من خاصيات النشر وهذه لوحدها مسألة إيجابية ومطلوبة .
اليوم هاهي القنوات التي يسمونها ” المؤثرة ” والفاعلة في الأنترنيت المغربي تضربنا بسفاهتها وهي تتندر في كارثة أليمة خلفت ضحايا وخسائر جسيمة ، أو وهي تعتقد أن الشهرة الزائفة التي أصبحت لها تعطيها الحق في أن تكذب على الناس ، وفي أن تروع الناس، وفي أن تختلق الأخبار مثلما دأبت على ذلك منذ القديم، سوى أن الموضوع هاته المرة لا هزل فيه ولا لعب .
اليوم ها نحن نفهم أن خاصية ” اللايف ” المتاحة لك في مواقع التواصل الاجتماعي لا تعطيك لوحدها شرعية مخاطبة الناس إذا لم تكن تتوفر على مؤهلات مخاطبة هؤلاء الناس .
” إذا لم تستح فكن مؤثرا يصور نفسه في جبال الأطلس الكبير وهو يساعد المنكوبين .
إذا لم تستح ، انس من ماتوا ، وانس من جرحوا ، وانس الصغار اليتامى ، وانس الأرامل التائهات ، وتذكر فقط أن لديك قناة تافهة ، أو حسابا أتفه في مواقع التواصل الاجتماعي ، لا يجب أن يظلا فارغين ، ومن الضروري تزويدهما على رأس الساعة بالجديد من أجل جمهورك العزيز ، وبقية البذاءات التي طبعنا معها حتى صارت كالعادية اليوم .
إذا لم تستح ، فقل في قرارة نفسك ” هاد الهوتة ديال الزلزال ما خصهاش تضيع ” ، وقم بسرعة بالعمليات الحسابية التي تتقن القيام بها ، وستكتشف أن اشتراء بعض اللوازم الضرورية ، ليس للسكان ، لكن لك لكي تجد ما تصوره وأنت في الطريق ، زائد ثمن الوقود وثمن التصوير وهو قليل ، كل ذلك سيجلب لك مبالغ أكبر عندما يصل بالآسندس مداه ، وفي نهاية شتنبر الحزين هذا ستدخل إلى رصيدك ملاليم إضافية تعتقدها أنت ربحا ، ويراها من ينظرون بقلوبهم الخسران المبين .
اذا لم تستح ، قل إنك ناشط ، وقل إنك فاعل ، وقل إنك مؤثر ، وقل إنك يوتيوبر ، وقل إنك تيكتوكر طار عن عينيه النوم منذ الجمعة الحزينة ، وقرر أن يخصص عمره كله للتصوير في أعالي الجبال ، لا طمعا في ربح مادي صغير ، بل تعاطفا مع الفقراء والفقيرات ، وإعانة مجانية لوجه الله ، دون نسيان إلقاء اللعنة على الكاذبين .
القلة القليلة من الصادقين من أهل العمل التطوعي الخيري الذين يقومون به دون إشهار يفسده ، ودون تصوير وبهرجة ، ضاعت بين جحافل المتسولين الجدد هؤلاء الذين اكتشفوا عملا مدرا للربح لا يتطلب أي جهد سوى تصوير النفس والناس والمتاجرة بهما في كل شيء .
في السابق كنا نرى تفاهاتهم ونعبر ، ونقول إن مجرد التوقف للحديث عنهم أمر سيعطيهم قيمة لم تكن لهم أبدا . أما اليوم ، ومع وصول حقارتهم إلى مصيبة عظمى مست المغرب كله ، مثل الزلزال ، رأوا فيها هي الأخرى فرصة لسرقة المزيد من مال المنبهرين الأغبياء بهم الذين يتابعون رداءاتهم ، فهنا وجب التوقف كثيرا وليس قليلا ، لكي نقول للجميع إن آفة المؤثرين هاته قد وصلت فعلا المناطق غير المسموح بوصولها ، وأن جهة يجب أن تجد طريقة ما لوقف كل هذا النصب وهذا الاحتيال . ” لغزيوي – الأحداث المغربية العدد 7995.
أهل المهنة الحقيقيون ، وهم يرون الناس تعود إلى المرتكزات الأولى ، وتحاول أن تبحث عن الخبر الحقيقي من مصادره المعتد بها ، والتي صنعت على امتداد التاريخ جديتها وبصمتها يحسون بنوع من إعادة الاعتبار اليهم بعد أن تم قصفهم طيلة السنوات الأخيرة التي مرت بعبارة ” ماتت الصحافة التقليدية ” ، ” الزمن اليوم هو زمن البوز أيتها الديناصورات ” ، ” هؤلاء المؤثرون الجدد أصبحوا صحافة الوقت الحالي ، لقد مضى عهدكم أيها القدامى ، ناموا في قبوركم …”
العديدون ازدردوا حزنهم على مضض ، وواصلوا العمل وفق الطريقة التي تعلموها وأحبوها واحترموها وقالوا في قرارة أنفسهم : إذا كان ضروريا أن يقال لنا أننا متنا فلنصحب معنا مهنتنا إلى القبر ، لن نتركها لهؤلاء الجهلة لكي يعربدوا فيها مثل ما يشاؤون ” .
الحاجة اليوم ماسة لصحافة مواطنة ، جادة وجدية تنقل الأخبار الموثوق منها والصحيحة الى الناس تواكب هذا الابداع المغربي في مجال مقاومة المرض بوطنية وبتقدير حقيقين ، تقفل الباب على المتسللين سهوا إلى ميدان الصحافة . وهم كثر ….فهناك من يصر على أن يظل الوحيد الذي يستفيد من هذا الميدان غير المدر للدخل بالنسبة لأبنائه الأصليين ، الوفير الأرباح بالنسبة لعدد كبير من المتسلطين عليه …
نكاد نؤمن ان الزمن القادم ، بعد الزلزال سيحمل معه إلى زواله كثيرا من الأدعياء والمتسللين ومنتحلي الصفات عنا ، وسيعيد الى هذا الميدان قليلا من الاحترام الذي كان عليه ، وسيجعل من المتعففين من أبنائه الأصليين وجوهه اللامعة ، وسيلقي بمن تطفلوا عليه كل هاته السنوات إلى حيث يجب أن يكونوا .
ستكون هذه الاستفادة أفضل ما قد يقع لنا بعد الزلزال ، وسنعطي بها الدليل أننا استفدنا قليلا من هذه المأساة .
ماذا وإلا سنكون فعلا رموزا لغباء كبير ، إذا ما عدنا إلى السماح لنفس المحتالين والمتسلطين بأن يواصلوا احتيالهم السمج علينا وعلى مهنة الصحافة التي لا زلنا نقدسها رغم كل ما مر عليها من ضربات .

error: