ندوة بالرباط حول “تاريخ الزمن الراهن بين الهوية الابستمولوجية والمنهجية والتنقيل الديداكتيكي”

من أجل إعادة إحياء النقاشات الابستمولوجية والمنهجية حول تاريخ الزمن الراهن

4٬386
في إطار مسايرة الديداكتيكيين المغاربة لآخر مستجدات النقاشات الأكاديمية في حقل التاريخ، نظم مركز تكوين مفتشي التعليم بالرباط، بشراكة مع كلية علوم التربية، ندوة تحت عنوان “تاريخ الزمن الراهن بين الهوية الابستمولوجية والمنهجية والتنقيل الديداكتيكي”، وذلك بقاعة المحاضرات بالمركز المذكور، غايتها إعادة إحياء النقاشات الابستمولوجية والمنهجية حول تاريخ الزمن الراهن بحضور متخصصين وديداكتيكيين من أساتذة باحثين تربويين، ومدرسين، ومفتشين…) ومساهمتهم في النقاش في أفق التفكير في تعديل المنهاج التخصصي لمادة التاريخ.
ومعلوم أن بلادنا مقبلة على عملية تنقيح المناهج الدراسية بشكل يتلاءم مع التوجهات الاستراتيجية للدولة المغربية في قطاع التعليم، حيث شارك في إغناء النقاش حول موضوع الندوة كل من أستاذ التاريخ المعاصر والراهن بجامعة محمد الخامس بالرباط، الأستاذ عبد العزيز الطاهري، وأستاذ ديداكتيك التاريخ بكلية علوم التربية بالرباط، الأستاذ محمد صهود، كما حالت ظروف صحية قاهرة، للأسف، دون مشاركة أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة عبد الملك السعدي بتطوان، الأستاذ الطيب بياض، وأستاذ التاريخ المعاصر والراهن بجامعة محمد الخامس بالرباط، الأستاذ الجيلالي العدناني.
افتتحت الندوة بكلمتين ترحيبيتين لمديرة مركز تكوين مفتشي التعليم، عميد كلية التربية، فيما أبرزت كلمة الباحث يونس بوحسين عن اللجنة التنظيمية الغاية الكبرى من تنظيم هذا اليوم الدراسي، في هذا السياق المغربي بالذات، والتي “تتمثل في تجسير العلاقة بين الأكاديمي والديداكتيكي لتعميق النقاش حول موضوع تاريخ الزمن الراهن”، وفي “إيجاد سبل وإمكانات التنزيل الديداكتيكي للتاريخ الراهن في واقع الدرس التاريخي المدرسي لتجديده وتطويره”، خاصة مع السياق الحالي الذي يعرف مراجعة المناهج والبرامج التربوية.
ومن جهته، تناول الباحث في تاريخ المغرب الراهن، محمد العفاس، بعض خصائص تاريخ الزمن الراهن من الناحية الابستيمولوجية والمنهجية، ووضع على رأسها قضية القرب التي اعتبرها “أساس كل الاعتراضات التي رُفِعت لنزع الصفة “العلمية” عن تاريخ الزمن الراهن مثل غياب المصادر الأرشيفية، وغياب الموضوعية، والجهل بالمآلات”، بينما تطرق لمسألة طلب الاجتماعي الذي “يمكن أن يكون محفزا للباحث للإجابة عن تساؤلات المجتمع، أو أن يكون مقيدا لحرية الباحث في اختيار مواضيع بحثه ومنظور معالجتها”.
وفي ذات السياق، اعتبر المتدخل تاريخ الزمن الراهن “حقلا بحثيا يكتب تحت أنظار الشهود والفاعلين الذين قد يعترضون على خلاصات المؤرخ لأنهم يرفعون شهادتهم على الأحداث إلى مستوى التاريخ الذي لا شبهة فيه”، كما أن “نقطة قوة مؤرخ الزمن الراهن، وهنا الخاصية الرابعة، تكمن في غنى وتنوع مصادره البديلة التي تسعفه في إنجاز كتابة رصينة للتاريخ القريب في حالة تعذر الوصول للأرشيف”، مؤكدا “أن تاريخ الزمن الراهن ينافس التخصصات والأجناس الأخرى للمؤرخ في كتابة تاريخنا القريب مثل الاقتصاد، والسوسيولوجيا، والعلوم السياسية، والصحافة، … إلخ”.
وصلة بالموضوع، زاد المتدخل، محمد العفاس، فأشار إلى “أن المؤرخ تبقى له بصمته الخاصة إذ يضع الظواهر في تطورها الزمني، وينوع مصادر معلوماته، ويفحصها بالتحليل الناقد، ويقابل بعضها ببعض”، قبل أن يختم مداخلته بملاحظات ديداكتيكية تفيد ب “أن التنزيل الديداكتيكي للتاريخ الراهن يجب أن يراعي منطوق وروح الوثائق التربوية الرسمية، مذكرا بأن إدراج تاريخ التاريخ الراهن في منهاج مادة التاريخ من شأنه أن يحقق غايات مواطنة مثل التمسك بالخيار الديمقراطي، وحب الوطن والاعتزاز بالانتماء إليه في حدوده الحقة، وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان”، بالإضافة إلى “غايات منهجية تتمثل في انفتاح المتعلم على مصادر جديدة للتاريخ (الصحافة، الصورة، الفيلم، الشهادة الشفوية، المذكرات، …) وتعلمِه أساليب قراءتها قراءة نقدية”.
أما الدكتور عبد العزيز الطاهري، فركز في مداخلته على “تشريح العلاقة الملتبسة بين الذاكرة والتاريخ التي قد تشوه على تمثل العموم لماهية التاريخ القريب”، وقد ألقى نظرة تاريخية على مواقف المؤرخين من الذاكرة بدءً بالمدرسة الوضعانية التي اعتبرها “جنسا قاصرا عن استعادة الماضي وأنها لا ترقى إلى مستوى المصدر”، وانتهاء ب “مدرسة الحوليات التي أعادت الاعتبار للذاكرة في إطار مشروعها الابستيمولوجي والمنهجي القاضي بتوسيع مفهوم الوثيقة”.
كما حرص ذ. عبد العزيز الطاهري على التمييز الدقيق بين الذاكرة والتاريخ دون إحداث القطيعة بينهما، “فالذاكرة هوية ورواية متاحة للجميع، أما التاريخ فهو مهنة ودراسة وحنطة، وتسعى المعرفة التاريخية إلى إخضاع الذاكرة للنقد عبر تصحيح هفواتها وتنسيب روايتها للأحداث: لقد تحولت الذاكرة من مصدر من مصادر التاريخ إلى موضوع للبحث التاريخي”.
ومن جانبه، اختار الدكتور محمد صهود أن يعالج موضوع تاريخ الزمن الراهن بمناقشة أربع قضايا تاريخية بالمراوحة بين ما هو أكاديمي وما هو ديداكتيكي، في ورقة بحثية أعدها رفقة الأستاذ شكير عكي، وحدد النقطة الأولى في بداية التاريخ الراهن، وفصل فيها القول في “السياقات المعرفية والسياسية التي أدت إلى بروز تاريخ الزمن الراهن، بعد الحرب العالمية الثانية، واكتساحه معظم جامعات العالم”، وفي المقابل لاحظ أن “الكتاب المدرسي المغربي لا وجود فيه لذكر عبارة “التاريخ الراهن”، وأن أحداث التاريخ القريب تتماهى مع أحداث التاريخ المعاصر”.
وإلى جانب ذلك، عالج المتدخل قضية الموضوع والهوية، وذكر الحاضرين بأن تاريخ الزمن الراهن “اختلف في تحديد هويته وموضوعه تياران: تيار نفى عنه أي هوية أو موضوع محدد (بيير نورا)، وتيار تحمس له بشدة باعتباره حقلا ديناميا بفضل تعدد مصادره ومحاورته للعلوم الإنسانية الأخرى (روني ريمون)”،  وفي نقطة ثالثة، ناقش محمد صهود المشكلات المنهجية المستعصية التي أسالت الكثير من المداد بين الأكاديميين المتخصصين، والتي “لا شك سيكون لها تأثير على أي محاولة في المستقبل من أجل التنزيل الديداكتيكي لتاريخ الزمن الراهن”، وأهم هذه المشكلات المنهجية: الموضوعية والذاتية، الجهل بمآلات الأحداث، ومسألة التحقيب، وتعذر الاطلاع على الأرشيف.
وفي نقطة رابعة، أثار د. محمد صهود، بحس ديداكتيكي متمرس، قضية مصادر تاريخ الزمن الراهن، وأشار، في ارتباط بالموضوع، إلى “الإكراهات القانونية التي تحول دون الوصول للأرشيف العمومي، لكن ذلك لم يمنع الباحثين من كتابة التاريخ القريب بالاستعانة بالمصادر البديلة: الصحافة، الشهادات الشفوية، الصور، الفيلم، الانترنت، ….”.
وتوجت أشغال الندوة بمداخلة للباحث جواد التباعي، قدم فيها قراءة تركيبية لمساهمات أزيد من عشرينا باحثا لم تسعف الظروف لتقديمها كلها، وقد انقسمت المداخلات بين ثلاثة محاور رئيسية: 1. الهوية الابستيمولوجية لتاريخ الزمن الراهن، 2. مصادر تاريخ الزمن الراهن، 3. آفاق التنزيل الديداكتيكي للتاريخ الراهن.
وأبانت جلسة المناقشة عن استيعاب الحضور لقضايا تاريخ الزمن الراهن المعرفية والمنهجية والديداكتيكية، كما ظهر من خلال المناقشة أن الطريق لا زال طويلا أما الأكاديميين والديداكتيكيين المغاربة من أجل تعميق النقاش حول قضايا يبدو أنه لم يوجه لها الاهتمام اللازم مثل قضيتي القرب والجهل بمألات الأحداث: هل هما بالفعل عائق أم فرصة لإحداث ثورة في كتابة التاريخ وتمثله؟ وقضية طغيان الهم السياسي على الأطروحات التي أنجزت حول تاريخ المغرب الراهن، وقضية الحدود الفاصلة بين الكتابة الصحفية والأدبية للتاريخ القريب وبين الكتابة التاريخية الأكاديمية.
وعلى هامش اختتام اللقاء، تم توزيع شهادات تقديرية على الأساتذة المتدخلين، تتضمن عبارة شكر على تلبيتهم دعوة المركز وكلية علوم التربية، فيما سلمت للمساهمين، من الباحثين الشباب، شهادات المشاركة ووعد بنشر أشغال هذه الندوة ومساهماتهم في أقرب فرصة ممكنة.
× اللجنة التنظيمية
يونس بوحسين، جواد التباعي، ومحمد العفاس
error: