قراءة أخرى في كتاب “المسرح والسرد: نحو شعريات جديدة” لمؤلفه الباحث د. محمد أبو العلا

22٬390
  • طارق برغاني (°)
توطئة
كتاب “المسرح والسرد نحو شعريات جديدة” تأليف الكاتب والناقد الأستاذ الدكتور محمد أبو العلا، صادر في طبعته الأولى سنة 2018 عن دار فالية للطباعة والنشر والتوزيع ببني ملال، ويقع الكتاب في مائة وسبع صفحات متضمنا إهداء وتقديما للدكتور إبراهيم الهنائي ثم تقديم المؤلف وستة مباحث تشمل مجموعة من المحاور الفرعية، ثم خاتمة، وهو جزء من مشروع علمي، سيغنيه الباحث قريبا جدا بإصدار موسوم ب” هجنة المتخيل المسرحي والسردي، من النقد المحايث إلى تهجين النقد عن دار الموجة الثقافية.
في هذا الإصدار يسافر الأستاذ الدكتور محمد أبو العلا بالقارئ في عوالم فن المسرح وتعالقاته بالسرد، وما يمكن أن يتولد عن هذا التراسل من شعريات جديدة تارة، وأشكال فرجوية هجينة تارة أخرى، كما يوحي بذلك عنوان كتاب يتميز بالجدة والجودة في الطرح والكثافة في الأفكار والبلاغة في الأسلوب والإبداع في التحليل، والنقد مبنى ومعنى من خلال نظرة فاحصة لكاتب خبير بخبايا المسرح، وعن علو كعب في نسج الأفكار وتوليف الرؤى وافتحاص الإشكالات المطروحة، حيث يمكن القول بأن الباحث قد زرع بهذا الكتاب المتميز بذرة التنظير لنظرية تأصيلية واعدة بشعرية غير مسبوقة.
قراءة
في تقديم الكتاب أثار الدكتور أبو العلا مجموعة من التساؤلات المرتبطة بحضور السرد في المسرح، أو التداخل والاختراق للعمل المسرحي بالحكي، خاصية مميزة لاتجاه جديد منبثق من ما بعد الحداثة، ثم التداخل والاختراق المتجسد أيضا في احتضان السرد الروائي للمسرح، (ص: 06) (1) ، بمعنى: هل هذا التمازج بين الأجناس بمثابة تأسيس لشعرية جديدة؟ أم هو ميلاد لمسرح هجين يستوعب أشكالا تعبيرية متعددة؟ أم أن سياق ما بعد الحداثة اقتضى نمطا مسرحيا تعبيريا جديدا يمتح من حقول فنية وأدبية مختلفة تتشظى فيه الأدوار ويتداخل فيه صوت السارد مع أصوات الشخوص؟
لهذا الغرض أثار المؤلف  في المبحث الأول قضية “المسرح والهوية، الأنا والآخر من المثاقفة إلى التباسات التناسج” مستهلا طرحه بتأطير لمفهوم الهوية لغويا، صوفيا، فلسفيا واجتماعيا، منتقلا إلى معناها في الأدبيات المسرحية خاصة عند إرفينغ غوفمان  عبر ما وسمه بـ : “استراتيجية تقديم الذات”، بتقسيمها بين ما هي عليه على خشبة المسرح، وبين ما تكون عليه في الكواليس، حيث يسوق الدكتور أبو العلا نظرة تأملية حول التحول الذي حدث في تصور الغرب تجاه الشرق والتمايز المتعالي بينهما من منظور غربي في المرحلة الاستعمارية، ثم الطفرة التي غيرت هذا التصور في مرحلة  ما بعد الحداثة عبر مشروع تفكيك “بؤر التمركز” مع فلاسفة من قبيل دريدا وهابرماس (ص: 17)، مشيرا إلى أن الحركات الاستشراقية غالبا ما كانت فاقدة للثقة في نقل حقيقة الشرق، محذرا من خطر تداعيات الانفتاح على الغرب في إطار العولمة (ص: 18).
في هذا السياق، وضمن مبحث  “الهوية بين القطيعة مع أسطورة الأصل وعودة ديونيزوس”، الذي خصه الدكتور أبو العلا بالحديث عن الهوية والذات في المسرح، مثيرا تصورا دريديا مسنودا مسرحيا بأرتو من خلال مفهوم جديد للحضور الهوياتي في المسرح، خلافا لما ساد في الغرب الكلاسيكي (محاكاة، تطهير، إيهام…) والذي عرف بـ “كتابة طقسية تلغي الكلام بالانقلاب على النص”، مثلما تحاكي جمالية المحكي الشرقي وشعرية الجسد مع غروتوفسكي، بريخت، باربا، بروك…(ص: 19).
هذا التصور الجديد الذي تشكل في إطار ما بعد الدراما كان من الطبيعي أن يندرج ضمن سياق ما بعد الحداثة لتزامن انبثاقه مع إحداث قطيعة مع المسرح الديونيزوسي، حيث يستحضر المؤلف مفهوم التناسج عند إريكا فيشر ليشته ودواعي اختيارها كبديل لمفهوم المثاقفة غير المتكافئة وما “يشرعه (التناسج) من آفاق لتواشج جمالي للفرجات لردم الحدود بين الهويات بدل ترسيمها المسبق” (ص: 20)، على الرغم من الملاحظات الوجيهة التي قدمها الدكتور أبو العلا حول التباسات دلالات هذا المفهوم الجديد من خلال تحليل لغوي واشتقاقي له، ومقاربة معانيه من زوايا تاريخية وأنثروبولوجية مستشهدا بآراء باحثين من قبيل خالد أمين وعز الدين المناصرة.
ويقودنا هذا إلى المحور المعنون ب”المسرح المغربي والهوية، الأنا والأخر، الغياب والحضور” من خلال إشارة المؤلف  إلى مفارقات البدايات الأولى التي طبعت احتكاك المسرح المغربي بالمسرح الغربي، انطلاقا من  انفتاح المغرب على المسرح الشرقي، في حين كان من الأولى انفتاح المغرب على المسرح الغربي نظرا لعوامل جغرافية، كما أن الاحتكاك المغربي بخطاب حديث طارئ على الثقافة التقليدية من خلال زيارة أول فرقة مسرحية مصرية إلى فاس سنة 1923، استدعى – في تقدير الباحث – جملة من التساؤلات حول “مسوغات استهجان هذا الخطاب في معقله وقبوله وافدا عبر شرقه”، ( ص: 23)، إضافة إلى  السياق التاريخي والسياسي الذي طبع مرحلة استنبات وتشكل مسرح مغربي ذي هوية مغربية، مسرح متحدر مسبقا من مرجع غربي عن طريق الاقتباس والترجمة ، (ص: 23-24).
وهنا يطرح إشكال الهوية في المسرح المغربي التي أمست متجاذبة بين ازدواجية هوية النص المؤسس ونص الذاكرة المتأرجح بين الاغتراب في الغرب والإقامة في التراث من منظورمحمد مسكين،  ويمثل الدكتور أبو العلا لهذا التجاذب والتأرجح  بالمسرح الاحتفالي لعبد الكريم برشيد وتجربة موليير المغرب أحمد طيب العلج، ثم بعده مسرح الطيب الصديقي الذي سينحو نفس المنحى، ويستشهد المؤلف هنا بمقاربة د.خالد أمين حول مآزق الهوية التي صارت تتخبط فيها الذات العربية راهنا، بعد أن وجدت نفسها مشكلة في الحد الفاصل بين السردين: سرد غربي وسرد محلي عربي إسلامي، (ص: 26). 
ورغم ما راكمه المغرب من حيث البنيات التحتية والتنظيمية التي تعنى بالعمل المسرحي فإن ما راكمه المسرح المغربي من منجز “ظل يراوح بين تصريف فرجة “ما بعد درامية” بتمارين جسدية غير مبررة داخليا بالمتخيل، وبين مسرح خارج أبجديات الفعل المسرحي”، (ص: 27).
وبأسلوب بليغ ولغة أدبية رفيعة يأخذنا المؤلف الدكتور أبو العلا إلى تفاصيل مسرحية “باي باي جيلو” للكاتب طه عدنان وهي مونودراما عرضت في مهرجان خنيفرة للمسرح التجريبي سنه ،2014 مجسدة لقصة “الجيلالي” “جيلو” المغترب في الديار البلجيكية، والذي يعبر عن تصدع هويته المغربية داخل مجتمع غربي ملتبس، مفككا شفرات هذا العرض المسرحي من خلال رمزيات الديكور والملابس والأحداث والحركات و العناصر والإكسسوارات والشخوص والحوار، مثيرا في نهاية هذا النقد التحليلي مجموعة من الإشكالات المتعلقة بالعلاقة الملتبسة مع الغرب و السبل الكفيلة  ب”نقد المنظومة الفكرية لهذا الغرب المطوح بالآخر المختلف والدوني” من خلال المسرح، وعن إمكانية التفكير في كيمياء سرد كوني، أمام السردية المتعالية للآخر، (ص: 30-31)، معززا تحليله بصور توضيحية للقطات من مشاهد للعرض.
وفي ذات السياق يعرج الباحث على نماذج أخرى من عروض مسرحية مثل مسودة مسرحية “الشتاء تحت الطاولة” لرولان طوبور التي تجسد صراعا بين “سوزان” و”عثمان” انتهي بمصالحة  بناء على”تصحيح الصورة السيئة في مخيلة الأنا والآخر”، وأيضا مسرحية “معارك الربيع” للكاتب المسرحي الإسرائيلي ليفان هانوغ والتي أطرها في مونتاج مائز موسوم بـ “الحياة جميلة يا صديقي” كعنوان ساخر من “متخيل عبري طافح بالقبح والقتل والاجتثاث للفلسطينيين”، وقد ساق الباحث مقاطع من حوارات معبرة عن هذه المفارقة المسرحية الساخرة، (ص: 33-34).
ويستهل الدكتور أبو العلا المبحث الثاني من الكتاب المعنون بـ “كيمياء بروك /خيمياء كويلو المسرح والسرد (التقاطع والامتدادات)” بمحور أول عنوانه “عزلة الراعي وحكاية المسرح الأصل “ تجاوز فيه الباحث الخوض في السجال والصراع بين الأنا والآخر، إلى الحديث عن عالم فسيح أكثر رحابة يستوعب مسرحا كونيا، باسطا تصورا جديدا من خلال تتبع بطل “الخميائي” سانتياغو الذي سلك مسارا يمتد من قلب أوروبا إلى الشرق (أهرامات مصر) حيث سيدرك بعد أن ساح بعيدا في الصحراء أن للعالم لغة كونية وأن له روحا وأنه جزء من هذه الروح، (ص: 36).
فهذه اللغة الكونية التي لا تحكمها حدود هي ما سيؤكده بيتر بروك باعتبار أن الإنسان كائن مكتمل التطور تتداخل فيه جميع الأعراق والأجناس، وأنه له نفس الدوافع وتحركه نفس النوازع والحركات، وبذلك فالإنسان أكبر من أن تحدده ثقافته، (ص: 36).
ويستعرض الدكتور أبو العلا اقتباسات من الكاتبين باولو كويلو وبيتر بروك اللذين يتقاسمان نفس القلق الإنساني المشترك من خلال شخصيتي سانتياغو  ولير الباحثين معا عن لغة كونية واحدة تستوعب إمكانية التواصل والحوار مع كل الأجناس والأعراق، (ص: 37).
بعد ذلك سينتقل بنا الباحث إلى فضاء تأملي وفلسفي أكثر رحابة يُعنى بهذا التوجه الجديد الناقد للحداثة والمتمرد على قواعد المسرح الغربي الذي ينصب نفسه  الأصل والمركز، من خلال مفاهيم كان قد نحتها جاك دريدا ، هذا الأخير الذي يرى على أنه ليس تمة من أصل محض، بل الأصل هو الذي يبدأ بالابتعاد عن مقام الأصلية مشيدا (دريدا) بمسرح أرطو في كتابه “الكتابة والاختلاف” ومؤكدا على ضرورة “الانقلاب على حقبة تاريخية ميتافيزيقية حُدد فضاؤها الإشكالي في اللغة”،  تصور آخر ناقد لشكل الحداثة ، كما أشار إليه الدكتور أبو العلا، جاء مع مشروع هابرماس الذي دعا إلى تنقية هذا الفكر الحداثي من بؤر التمركز و”الخروج من فلسفة الذات الضيقة إلى نسيج من الذوات المتواصلة والمحطمة لدوائر الانغلاق”، (ص: 39). 
وفي محور آخر وسمه  أبو العلا  بسؤال “نحن والآخر والفرجة، هل عبرنا الى الأهرام أم بنينا أهراما في الحديقة؟” سيسائل فيه ذواتنا ونظرتنا إلى الآخر، ثم هل لدينا آليات التجسير بين فرجاتنا والمسرح؟ وهل -على الأقل  – ربطنا أواصر مع عمقنا الإفريقي قبل أن نتجه نحو الانفتاح على الغرب؟ لقد شكلت الصدمة، – من منظور الباحث عبد الإله بلقزيز- التي خلفها اكتشاف الفجوة التي تفصلنا عن هذا الغرب ثقافيا وحضاريا في الوعي العربي، من  خلال ما وصفه بلقزيز بالتوتر الإشكالي الحاد، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين.
لهذا يرى الدكتور أبو العلا أن المسرح في المغرب ظل محكوما بالإخفاق في حل مجموعة من الأسئلة التي تتجاوز إمكانية القدرة على صوغ نظريات معزولة عن سياق المقدمات الثقافية للإخفاق التي تحكمت في مسار المثاقفة، وهنا يستعرض الباحث  توترا بين حدين قصيين: أولهما “حد الدفاع المستميت عن الهوية والموروث الثقافي والاجتماعي والقيمي في وجه زحف الحداثة الجارف …وثانيهما حد التبشير بحداثة حاملة لقيم كونية لا يجوز التردد أمام الأخذ بها تحت أي عنوان مبرر مثل الخصوصية والهوية”، (ص: 42). ويوضح  أبو العلا ما سيطرحه البحث في ضوء اجتراح مسار مواز لمسار التناسج من إشكالات منها، الحاجة إلى منسوب كاف من كيمياء التواصل بين ذوات فاعلة،  ثم تباين وتيرة الإنتاج على مستوى البحث والتنظير، وكذا وتيرة المنجز التجريبي المنضبط إبداعا لانشغالات هذا البحث ومقاصده، فضلا عن تأجيل انفتاحنا على نقد ثقافي كان سيسهم العبور المبكر إلى حقوله في فك الطافي من أسئلة غير محسومة في خطاب المسرح”، (ص: 43).
ويسوق الباحث مجموعة من الشروط الكفيلة باحتضان مشروع التناسج بين الثقافات من بينها: “الوعي بالمضمر الثقافي المتحكم في الطافي من إشكالات المسرح والفرجة، وتوطين التناسج خارج مدار الآخر بالموازاة مع تحضير الوجدان الجمعي المسرحي لشعرية وافدة،  لمحو نسخة الرابض في المحكي والمخيلة، وتجاوز الأفق المثقل بثقل القبليات المسبقة عن  هذا الآخر”، (ص: 44).
ويختتم المؤلف هذا المبحث باستعراض الشروط الكفيلة بإمكانية التجسير بين أنثروبولوجيا الفرجة وأنثروبولوجيا المسرح، بالتفكير في استنبات مختبرات بحث على غرار الغرب، ومن بين هذه الشروط: “انفتاحنا أولا على هوامشنا المحايثة، وتصحيح علاقتنا الملتبسة بأشكالنا الفرجوية وبالآخر الجنوبي، والاضطلاع بحوار جنوب / جنوب  قبل وصله لا حقا بحوار شمال / جنوب”، (ص: 47).
وفي المبحث الثالث من الكتاب سيتناول الدكتور أبو العلا: “المسرح والحكي: التفاعل والإزاحة (2) مقاربة للمنجز وللمأزق الحافة بمسرحة المحكي التراثي” مستهلا هذا المبحث بتقديم ثم محور أول عنوانه  “الانفتاح على السرديات بعد استبعاد الأدبية لحظة الانتشاء بالتمسرح” بالحديث عن مكانة الحكي داخل المسرح على غرار باقي الأجناس السردية الحاضنة وخصوصية هذا المتن “وآليات تخلقه في سياق التحولات التي طالت المنجز السردي من منظور السردية كفرع من الشعرية”، (ص: 50).
وبشير الباحث أبو العلا هنا إلى الخطاب السردي باعتباره متاخما للرواية والقصة، ثم  لأسباب تأخر تناوله من طرف نقاد  المسرح، مشيرا إلى ما وقف عنده بافيس وهي أن الدراماتوروجيا الكلاسيكية أو ما بعد الكلاسيكية لم تمتح بما يكفي من نظريات علم السرد تاركة هذا العلم يتجدد في الظل، في هذا الإطار سيشير الباحث إلى مسار التنظير السردي انطلاقا من أعمال ديكرو وتودروف ضمن آليات تشكيل المتن الحكائي، فضلا عن أعمال فلاديمير بروب في التحليل المورفولوجي (علم الشكل)، ثم تحليل السرد Narratologie ثم إلى سميوطيقا مسرحية غربية مع أوبرسفيلد وكير إيلام، وصولا إلى مسرح ما بعد الدراما المتزامن مع مرحلة ما بعد الحداثة والموسوم “بالاحتفاء بأنموذج التشظي، والدعوة إلى رفض الشكل المنتهي، ومحدودية المعنى بإلغاء الفواصل في مسعى حثيث لتقويض نصية متمركزة “صافية” بأخرى “مهجنة” بنصوص متداخلة”، (ص: 52).
بعد ذلك ينتقل الدكتور أبو العلا إلى محور آخر بعنوان “العبور نحو محكي محكوم بأسئلة متصلة بالتراث وبالغرب” ، حيث يطرح في هذا المحور أسئلة مرتبطة بكيفية التعاطي مع المحكي التراثي  بإعادة التفكير في الفرجة المسرحية خارج الشعرية الأرسطية، أسئلة مرتبطة بالتراث في عمومه وبعلاقتنا الملتبسة به، وما يتصل به من علاقة ملتبسة بالغرب ذاته، فالعودة للتراث  والمحكي، تشوبها مفارقة تثبت أزمة المسرح وضيق أفقه الحداثي، على اعتبار أن الحداثة في الفكر العربي المعاصر كما عبر عن ذلك محمد عابد الجابري “تستوحي أطروحاتها وتطلب المصداقية لخطابها من الحداثة الأوروبية التي تتخذها أصولا، (ص: 54). وإشكال المواءمة بين الأصالة والمعاصرة الذي  تناوله زكي نجيب محمود  من خلال صياغته لتساؤل مفاده “كيف يمكن أن نوائم بين الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا؟ حيث من المحال أن يكون الطريق إلى هذه المواءمة هو أن نضع المنقول والأصيل في تجاور”، (ص: 54).
وفي المحور الموالي الذي عنوانه “التناص: من التفاعل إلى امتصاص الفرجة في غياب الوعي بالتقاطع بين البيوتيقا والمسرح” يطرح الدكتور أبو العلا مجموعة من الأسئلة المرتبطة بآليات التجسير بين أنثروبولوجيا الفرجة وأنثروبولوجيا المسرح، أسئلة تقتضي التفكير مبدئيا في المردودية المسرحية وراء إعادة محكي منجز سابقا في سياق فرجوي مسرحي موسوم بتعالمه؟ من خلال   التفاعل بين الراوي والمروي له بعد انزياح من ثقافة شعبية إلى اندماج في برنامج مخرج متوسل بآليات وافدة، فضلا عن مسألة التحضير والبحث في سردية التلقي، وفي الإنتاجية قبل الإنجاز على الركح، كون إغفال هذا التحضير يجهز على “المتناص” ويعصف بممكناته، (ص: 55).
ويقف الدكتور أبو العلا عند الاستراتيجية النصية للانتقال من المروي له في الخطاب الحكائي التراثي إلى جمهور المسرح معطيا مثالا عن هذه الاستراتيجية بمسرحية “بشار الخير” لمحمد الكغاط من خلال شخصية من التراث الفرجوي(السمايري) وفق تمظهرين موصولين بسياقين متصلين ومنفصلين في آن واحد: سياق “أمام الستار يظهر فيه السمايري بلباسه الأصلي وبمحمول لغوي مدخول بمرجع حكائي شفهي/ الحلقه”، ثم بعد رفع الستار ليبدأ الحوار حيث “على الرغم من أن  العرض هو مونودراما إلا أن الإشارة لبداية الحوار هي في الأصل إشارة لفرجة الآخر (المسرح)، متنقلا من خلال هذا المتغير إلى إدماج فرجة للعامة داخل عرض عالم”(، ص: 61)، ويراهن الكغاط على هذا الانزياح من الحلقة نحو المسرح، في جوابه عن إشكالية الحداثة والتراث، من خلال قراءة واعية لمقولة “التواصل هو التواصل” وكون تمثيل الحلايقي على خشبة إيطالية يحقق تواصل الممثل بالجمهور مثلما يحقق تواصل الشرق بالغرب، (ص: 62)، 
ويسوق الدكتور محمد أبو العلا مثالا آخر متمثلا في مسرحية “الرابوز” لفرقه “فيزاج” حيث إن هذا العرض الذي “يتموقع بقوة في سياق ما بعد درامي يسعى إلى ردم الحدود بين المسرح والحكي، وهجر صالة العرض ليكون على مقربة من الأداء ذي التخصصات المتعددة مع خلق أثر فني مرتجل من خلال الاشتراك الفعلي للجمهور “، (ص: 63)، ليقف الباحث  بعد ذلك على حيثية هذين النموذجين المسرحيين بالتحليل والتفسير لما يكتنفهما من أبعاد سردية يتداخل فيها الحكي  بالأداء المسرحي في ضوء النظريات والدراسات السردية وفي علاقتها بالتراث الشفهي الفرجوي بالمسرح، مستحضرا مختلف العناصر المتدخلة في الإنجاز المسرحي من شخصيات وأحداث وفضاء العرض وإشارات ركحيه وحوار وأداء وجمهور، معززا كلامه بصور توضيحية للقطات ومشاهد من المسرحية، (ص: 65). ي
ويعقب الدكتور أبو العلا على تساؤل طرحه الدكتور حسن اليوسفي حين أثار مسألة: ما الذي تبقى من الفرجوي وما الذي ينضاف إليه عندما يتحول من سياق الحلقة إلى سياق المسرح؟  بسؤال معكوس: ما الذي يتبقى من المسرح وما الذي ينضاف إليه عندما يتحول من سياق المسرح إلى سياق الحلقة؟ في هذا السياق يوضح  أبو العلا آليات تخطيب المحكي قبل مسرحته بالرهان على الاستراتيجية النصية، كون الرهان على المنعطف السردي هو فقط من أجل عرض لممكناته، وذلك باستثمار مساحة التقاطع بين البيوتيقا والمسرح والتي ينبغي أن تراعي خصوصيات كل من الفرجوي الشعبي “الشفاهي غير المنضبط لإكراهات المكتوب ونص مسرحي حاضن منذور للتداول الشفهي ومنضبط كتابيا لآليات التخييل المسرحي”، (ص: 67).
ويتناول الدكتور محمد أبو العلا في محور موسوم “المحكي الجنوبي وتوسيع أفق المسرح المغربي بإبدال جديد”، مسألة الانفتاح على المحكي باستحضار عرض مسرحي جنوبي عنوانه “كدور الذهب” لفرقة أدوار للمسرح الحر بكلميم، مشيرا إلى أن الانعطاف نحو الجنوب في المنجز البحثي المسرحي هو بمثابة إجابة عن سؤال مركزي شبيه بالسؤال الذي طرحه خطاب ما بعد الحداثة الغربي، وضمنه خطاب المسرح حول الذات الغربية وهي تتمرى في مزالق الانغلاق، (ص: 68-69)، موضحا في هذا الإطار بخصائص وميزات يتفرد بها مسرح الجنوب وما يوفره من متخيل صحراوي طافح بمخيال حكائي مدهش، من شأنه الاضطلاع بدور رافعة حقيقية للمسرح المغربي، وهو ينعطف اليوم بقوة نحو السرد.
وفي المبحث الموسوم بـ “عرض “شجر مر” من تنسيب النص إلى كونية العرض: مقاربة لفائض العلامة في سياق مخاتل” يُوطئ له الدكتور أبو العلا بتقديم تناول فيه ارتباط عبد المجيد الهواس “بالنص المسرحي حد الهوس والمس بكلماته وهو يلج عتبة مسرح آخر /ما بعد الدراما”، (ص: 79)، فضلا عما تشي به سيرة الهواس بالتمرد على الانضباط لقالب جاهز، وضرورة تسلح المخرج المسرحي بالمعرفة والقلق الملازمين لعبد المجيد الهواس، ومسيرة ارتحاله من تجريب إلى آخر ومن مسرح إلى آخر وصولا إلى التوطين الذاتي مع شلته الفريدة “أفروديت”، ثم منسوب قلق نصي طافح بالانتساب العابر إلى السرد والشعر تارة ثم إلى نصوص الشهادة تارة أخرى، ثم إلى الدراما فما بعدها.
ويحكي الدكتور أبو العلا قصة لقائه بعبد المجيد الهواس بطنجة مستعرضا الموضوعات المسرحية التي تشكل مركز اهتمام هذا الأخير كمخرج مسرحي، والتي تعالج قضايا من قبيل: السجون، الآخر (الأنثى) في أقصى حالات الانكسار، قضايا الأرض والوطن، كما يشيد الدكتور أبو العلا بميزات شخصية المخرج الهواس منها اقتصاده في الكلام، وإيثاره للصمت في أحايين كثيرة، مقابل حضوره الباهي وهو يبصم مشاهد مهرجان طنجة المشهدي بعروضه وبلمساته مقارنة بمخرجين مسرحيين آخرين، (ص: 80).
وبأسلوبه اللغوي الأخاذ وبيانه البليغ وحسه المسرحي المرهف، يتحفنا الدكتور أبو العلا بقراءة تحليلية مبدعة لمسرحية “شجر مر” للمخرج عبد المجيد الهواس وما تكتنفه من إشارات وعلامات رمزية لا تخوم لتأويلها ولا حدود لمعناها ولا سقف لاستعاراتها، معززا هذه القراءة بصور للقطات من مشاهد المسرحية، ومستدلا باقتباسات من نص المسرحية على شكل سرد شعري مستقى من جنس أدب السجون، ومغرب سنوات  الرصاص وما اكتنفه من فعل آلة التعذيب الجهنمية، وجولات الاستنطاق لسجناء الرأي في منافي ومعتقلات “المقري” و”تازمامارت”، وصراعات آلت جلها في النهاية إلى ما يشبه كوميديا سوداء، مستعيضا (الهواس) في نصه عن أسماء الشخصيات بالصفات والضمائر، موظفا تعارضا بين الفيديو والإضاءة وأصوات مكرورة، والقرع على قارورات زجاجية، ويقول  أبو العلا في هذا الصدد: “لا حدود للتأويل لا تخوم للمعنى، لا سقف للاستعارة وأنت تتملى في”شجر مر” موار لغابة من علامات تتطايف ظلالا أو تتصادى أصواتا خلف ستارة لا تكاد تجلي من منسوب تغول طافح إلا ما لم تسعه عبارة من أنين أو إيماءة”، (ص: 81).
ويستمر الدكتور أبو العلا في استجلاء ما تضمنت المسرحية من دلالات رمزية ومعان مضمرة بقراءة فأصحه ،ونظرة ناقد خبير بخفايا المسرح ضمَّنها محورا آخر بعنوان “البورتريه / وتأثير الشخصية بميسم قبلي ساند للتأويل في الحاضر” حيث تناول فيه عرض إشارات لافتة حول عنوان المسرحية وما تضمنه المشهد الافتتاحي من خطاب سيميائي واسم للعرض كله، ومختلف الإحالات الاستعارية من نقر على أواني الطبخ وعلى قنينات فارغة للتعذيب والخلفيات الصوتية الشبيهة بدبيب الهوام وفحيح الأفاعى وأصوات الحشرجات والأنين وصرير الأبواب، وتردد صدى متقطع لكلمة “ملل”، كما يضيف الدكتور أبو العلا معطيات مهمة حول وظيفة السينوغراف في تأثيث فضاء العرض، باستخدام آليات التضعيف المتهيئة للفيديو ومسارات قبل الحركة ورمزية اختيار ألوان الأزياء والمؤثرات الموسيقية والتبئير بالإضاءة… (ص: 88).
ويختم الدكتور أبو العلا هذا المبحث بمحور أسماه: “مسرحة سرد سياسي عابر إلى الراسب  بجمالية عرض راشح بالقسوة”، تناول فيه الحديث عن تجربة الإخراج عند عبد المجيد الهواس والظروف التي جعلته يتناول هذا الموضوع الذي طبع مرحلة تاريخية وسياسية من مراحل مغرب سنوات الرصاص، وما اكتنفه هذا العمل المسرحي المتميز من إشراقات إبداعية ابتداء من انتخاب النص الحاضن، إلى استواء متخيل مكتوب نجح في تصريفه فريق كفي من ممثلين وسينوغرافطارحا  (الدكتور أبو العلا) سؤالا إشكاليا متصلا بالتلقي، ومسوغ الاندفاع النقدي عندنا تلقاء أسماء البهرجة مقابل تهميش المنجز الإبداعي الراقي؟ وما الذي يؤسس لشعريات ماتحة من المتغير على خلاف تجارب منمطة ؟ (ص: 92-93).
وفي مبحث أخير وسمه بـ “رواية “المغاربة” لعبد الكريم جويطي شعرية الأعالي ومسرحة المتردم”، مع تقديم موجز لرواية “المغاربة” وإشارات مقارنة برواية أخرى لنفس الكاتب “كتيبة الخراب”  لينتقل بعد ذلك إلى محور عنونه “محكي جويطي بين التذويت والحلول” متناولا بقراءة نقدية رصينة تسلط الضوء على شخوص الرواية (الكفيف، سوزان/صفية) وما يرمز له هذا الاسم من علو وشفافية، وأيضا انتقال جويطي في هذه الرواية من “تفضية سروده السابقة بفضاء بادية ومدينة بني ملال، إلى الرهان على تنويع الفضاء بأعالي متاخمة”، (ص: 98)، وصيحة “تاماويت” الحزينة “إنشاد أمازيغي يتنازل فيه الجبل الغامض المهيب عن كبريائه”، (ص: 96). ويستجلي الدكتور أبو العلا ما تحمله دلالة الارتقاء من تطهير من أدران الأسفل(باشلار) بحضور ماء شفاف رمز للتجديد وما يخالفه من “سرد الأسفل المثخن بشرخ عمى داهم ، ثم ما يستتبعه ذلك من انعطاف الرواية نحو أفق تحرر السارد، هذا التحرر الموازي لتحرر السرد من سرديته بالانعطاف نحو وصف مسهب متعال عن طفح معجم سفلي مثخن بالخراب”، (ص:97).
لينتقل الباحث بعد ذلك إلى محور آخر عنوانه “تناصات التاريخ وانعطافة التمسرح” عمل من خلاله جويطي على “توسيع حوارية الرواية بتهجين سردها بسرد ملعوب… وخرق عرف الحوار الروائي بافتراض قارئ راء… مؤشرا بذلك على التحول من نص سردي خالص إلى نص مثقوب”، (ص: 98-99)، وذلك من خلال العنوان البارز “هاملت وهراشيو” الذي يشكل انعطافا سرديا من داخل الرواية نحو المسرح، مسترسلا في تحليله الماتع من خلال ربطه برائعة شكسبير والإحالات التاريخية على تاريخ الآخر/الدانمارك، ليعود إلى الحديث عن غياب المطمور في فضاء بني ملال من خلال رواية “المغاربة” وهو “الحفر الذي لن يراوح في فضاء المتردم، بل سيتوسع بالنبش في الذاكرة الجماعية للمغاربة”، (ص: 100).
ويختتم الدكتور ابو العلا هذا المبحث الاخير من الكتاب بمحور أخير “نحو دينامية مجردة”، يتابع فيها حديثه عن رواية “المغاربة” وشخصية “العسكري” المعطوب الذي يماثل شخصية الضابط “أليغريا” في الرواية الاسبانية “أزهار عباد الشمس العمياء” حيث لا يبقى لهذا العسكري الأخير من ملاذ في ظل  آفات الحرب إلا البحث عن كينونة أخرى في ثنايا سرد مضاعف يتشكل من سارد أول “الغافقي” وهو يرتقي فكرا بفعل عمى داهم، وسارد ثان متحرر من عمى الحرب”، (ص: 102).
نخلص في نهاية هذه القراءة/ القراءات لمحاور ومباحث  هذا العمل إلى ما يطبع هذا الإصدار من أسئلة كثيرة ملازمة لنقد الناقد أبوالعلا، وهو يستعرض تقاطعات عديدة بين المسرح والسرد، المسرح والتراث، الأنا والآخر…في أفق إرساء مشروع علمي ابتدأ بشكل خاص في مقالات عديدة قبل هذا الكتاب، ليستأنفه بأسئلة بحثية جديدة في الإصدار القادم إن شاء الله، والموسوم ب”هجنة السرد والمسرح من النقد المحايث إلى تهجين النقد” عن دار الموجة الثقافية.
هوامش
  • (1) تجدر الإشارة إلى اعتماد الطبعة الأولى للكتاب لسنة 2018 عن دار فالية للطباعة والنشر والتوزيع. بني ملال،
  • (2) يشير الدكتور أبو العلا إلى أن مفهوم “الإزاحة” هنا يؤخذ بمعناه اللغوي أي بمعنى الإبعاد على خلاف معناه البلاغي الدال على الانزياح أو الخرق كما ذهب إلى ذلك جون كوهين.
(°) طالب باحث  بماستر السرد والثقافة بالمغرب كلية الآداب/ جامعة مولاي سليمان، بني ملال

 

error: