تقنيات الكتابة في رواية “الفسيفسائي” لعيسى ناصري – قراءة 2 –

16٬403
  • حميد ركاطة (°)
لا يمكن حصر تقنيات الكتابة  التي وظفت في متن العمل الروائي “الفسيفسائي”، لاعتبارات عديدة من بينها: أن صاحبها اعتمد على توظيف كتابة شذرية في بناء جزيئاتها الصغيرة، التي منها المتناسق، ومنها المتنافر. كتابة “تختفي فيها البطولة.. والأبطال.. ويكاد يتلاشى الانسان ،إذ يتحول إلى مجد اسم، أو رقم، أو شيء، أو صوت، أو ضمير.. لكنها ترسم من وراء ذلك إشارات الاستفهام التي تنضح بالاحتجاج على أوضاع الانسان العربي المتردية”.
كتابة لم تتوانى في نحت منظورها الخاص، لمفهوم الكتابة الروائية الجديدة، المتمردة على السرد الخطي، أو من خلال ما  وظف فيها من تقنيات، وجماليات داخل نسيجها الأدبي. الذي اتخذ أكثر من اسم: متاهة، رقعة شطرنج، دمية ماتريوشكا، لعبة لغو، “LEGOS، لاعتماد ها على قطع أخرى لبناء شكل من الأشكال. ” فالبنية السردية بنية فنية بالدرجة الأولى، ولهذا فهي تحتاج إلى مرجعية محددة، وفي أحسن الأحوال فإن البنية الفنية، هي مرجع ذاتها، ولا شك في أن هذا صحيح، ففلسفة البنية الفسيفسائية لا “تعكس” أو “تساير” العالم الواقعي” وبذلك يضحى من الصعب الوقوف على كل تفاصيل الرواية، كما لا يمكن إهمال بعضها الآخر بالمطلق، إذا ما رغبنا في تقديم موقف إزاءها، أو مقاربة محور من محاورها، كما  يبقى الأمر اختيارا شخصيا، وحسب ذائقة الناقد، وزاوية مقاربته.
ومعمار رواية الفسيفسائي، يذكرنا بحديث جوليا كريستيفا عن رواية  “جيهان دوسانتري” وهي من أعمال أنطوان دولاسال” حين قالت عنها، أنها ” تشكل الرواية الوحيدة من بين كتابات دولاسال التي يعتبرها نسخا وتجميعا لحكايات بناءة.. وهي حكايات تبنى كخطاب تاريخي أو كفسيفساء لا متجانسة من النصوص”.
في  البداية لابد من الإشارة أن الرواية العربية تستمد “حداثتها الفعلية من نزوعها، في الفترة المعاصرة، إلى التجريب، تحت وعي نظري بضرورة نحت شكل روائي عربي جديد. والأمر أن تعدد قضايا هذا الشكل الروائي، سواء على مستوى مضمونه أو شكله، يقتضي مقاربات متعددة لرصد مستويات حداثثه.”
ففي مستهل رواية “الفسيفسائي”، يخبرنا السارد أن  مفتش الشرطة مراد الشرادي (6) أو جلال الكتاني (449) في نهاية الرواية، بعد قراءته لرواية “الفسيفسائي”، وجد أن تفاصيلها “تتطابق … مع جريمة واقعية حدثت قبل سنتين ببلدة زرهون المجاورة”(5)، ذهبت ضحيتها امرأة أمريكية” (5) وتوصل، في خاتمة الرواية،  أن الجاني الذي تتجه إليه أصابع الاتهام، هو نفسه جامع المخطوطات الثلاثة لهذه الرواية” (6) المسمى عاصم الشبيهي. “الفسيفسائي الحقيقي لن يكون سوى صاحب هذه الرواية، وهو عاصم الشبيهي نفسه” (452) . بعد أن غير اسم المعلم الشاب، وحرف عنواني مؤلفيه، وحافظ على كل تفاصيل حياته، بما فيها ذلك الغرفة الملتبسة بالكاتبة الأمريكية .(أريادنا نويل/ أليس مور(452).
وإذا ما اعتمدنا على هذا الطرح،  تمنحنا الرواية انطباعا أوليا، بكونها رواية بوليسية، غير أن توالي الأحداث، يكشف أن ملامحها غير مكتملة، ولا تخضع لمقاييس، ومعايير كتابة الرواية البوليسية. مما يجعل منها  مجرد قطعة فسيفسائية أولى، داخل نسيج إبداعي متعدد الملامح، كراوية للجريمة.
ف” الرواية الجديدة تثير الأسئلة  الفنية التي تصدم القارئ، أكثر مما تجذبه، وتهز وعيه الجمالي وذوقه أكثر مما تدغدغ عواطفه، وتجعله يعيش في عالم متماسك بفوضاه، وهي تؤكد له مرارا “بصورة مباشرة وبأساليب عديدة” أن ما يقرأه لا يمثل الواقع، بل هو مجرد عمل متخيل.(وهي) بنية فنية دالة على الاحتجاج العنيف، والرفض لكل ما هو متداول ومألوف. وهي تجسيد لرؤية لا يقينية للعالم، مع تأكيد تنوع نماذجها وتعدد ألوانها وتباين أطيافها، واختلاف مناهجها في التصوير”..
بعد ذلك سيسحبنا السارد  نحو متاهة جديدة،  اعتمادا على  تقنية التقعير- وهي تقنية أشار إليها الناقد محمد العمراني في مداخلة خاصة بهذه الرواية- مع نص مختلف، بعنوان” ليالي وليلي”. “تبدأ أحداثه باتصال هاتفي بين جواد الأطلسي، ووسيط رجل أعمال أمريكي، اتفق معه على أن يكتب له رواية متخيلة وفق شروط محددة مسبقا، يستدعي فيها الحقبة الرومانية، ويستلهم فيها الموقع الثري وليلي، والفسيفساء الروماني، وأن تلحم بين الماضي  والحاضر، وفق بناء فارق بشخوص مسافرة في الزمن. وأن يكتب عن مقتل السائحتين الأمريكيتين في أنقاض معبد الكابتول.(22)، دون أن ينسى تضمين ” قضية سرقة تمثال باخوس الرخامي الناذر سنة.1982 غير أن جواد، وبعد الانتهاء من كتابة الرواية، سيرفض تسليمها له وتراجع عما تم الاتفاق عليه، فسرقت منه مسودة رواية “الفتى الموري” تحت الإكراه .من طرف رجلين غريبين.
وسنلاحظ أن الشروط التي  أراد رجل الأعمال الأمريكي، أن تتضمنها أحداث الرواية عبر وسيطه، ستكون في الحقيقة هي الأسس الفعلية التي ستنبني عليها رواية الفسيفسائي،  وستشكل مرتكزاتها الكبرى المتمحورة حول” التخييل، والفسيفساء خلال الحقبة الرومانية، وتمثال باخوس، بما تحيله دلالته، وتوظيفاتها المتعددة، من ايحاءات، وفق سياقات مختلفة. ولتجسيد هذا الطرح سيعمل الكاتب على توظيف مجموعة من التقنيات. من بينها:

توظيف الأساطير

عمد الكاتب إلى استثمار معطيات الملاحم، والأساطير، وأشهرها التراجيديات لأسخيلوس، وسوفوكل، وبعض القصص بالانيادة(254) وسيتخذ من “أسطورة هاديس وبرسيفوني” مرجعا لترجمة معطيات لوحة فسيفسائية، تشكلت معها لوحات فسيفسائية، أخرى، كاللوحة التي تجسد مشهد اغتيال المحارب الموري لقائد الروماني بطعنة سكين،  المستوحاة من إنيادة  فيرجيل،  ولوحة المرأة السمراء  المتواجدة بأرضية البيت القديم الذي يسكن فيه جواد الأطلسي.  وهي لوحات لها نفس مقاس اللوحة الفسيفسائية التي شاهدتها أريادنا  بمتحف اللوفر. بمقاس” 40/60 سنتمتر. فالمتح من الأسطورة تم بسلاسة، وعبر عن وعي الكاتب، وعمق اطلاعه، نظرا لما تضمنته الأساطير والملاحم، من معطيات، قادرة بحكاياتها على إضفاء طابع سحري، وجمالي، ولما لها من تأثير مباشر على القارئ بصفة عامة. “.إن ماهية الأسطورة  لا توجد في الأسلوب أو صيغة السرد أو في التركيب وإنما في القصة التي تحكى فيها. الأسطورة لغة، إلا أنها تشمل في مستوى أكثر سموا، وفيها يتوسل المعنى – إذا جاز القول- إلى الاقلاع انطلاقا من الأساس اللساني بالسير عليه” كلود ليفي سترواس، الأنتربولوجيا البنيوية.”
فهذا الانتقال الغريب، بين المواضيع، يدخل في الواقع ضمن” بنية السرد الفسيفسائي(التي) تنهض على الانحرافات السردية المتكررة، والاستطراد، والقفز، والاسترسال، والمزج بين الومضات السردية واللقطات الوصفية، وتنوع الرواة، والومضات السردية  المصقولة ألوانا شتى… وتأتي هذه الألوان والأطياف تعويضا عن غياب الحركة، وتماهي الأزمنة، وثبات المكان، وتضفي نوعا من الحيوية والبهجة بسبب قدرتها الايحائية، وطاقتها الرمزية المنوعة، فالقارئ يتابع تلك الومضات واللقطات وانحرافات والرموز، مأخوذا ومندهشا بحيوية السرد والاسئلة المنوعة التي تثيرها البنية السردية”

توظيف الوصف

يتم الاعتماد على الوصف كاستراتيجية، وفي نفس الوقت ألية ستلغي الحوار، وتختزل المسافات، وتقرب أحداث الرواية من القارئ،” تشترك الوقفة الوصفية مع المشهد في الاشتغال على حساب الزمن الذي تستغرقه الأحداث.. أي في تعطيل زمنية السرد، وتعليق مجرى القصة لفترة قد تطول أو تقصر، ولكنهما يتفرقان بعد ذلك، في استقلال وظائفهما وفي أهدافهما الخاصة”. بدءا بوصف الموقع الأثري وليلي من الأعلى، “قوس النصر، وأعمدة الكابيتول، وبقايا أبنية حجرية.. ترتدي زيا رومانيا عتيقا”(14) ووصف البيت القديم الذي يسكنه جواد، من الخارج ومن الداخل، مع التركيز على تفاصيله الدقيقة. الأثاث، والمفروشات، والغرف، المطبخ، و أرضيته التي تتضمن اللوحة الفسيفسائية، والمسافة بينه وبين الموقع الأثري وليلي.  وبين قرية فرطاسة.
كما سيصف موقع وليلي”، المدينة القديمة وليلي، راقدة بأطلالها وأبوابها المفتوحة على ومن بعيد” (13)، إلى جانب وصف بانورامي لقرية فرطاسة، وسفح جبل زرهون” من هنا سفح  الجبل الزرهوني، تبرز فرطاسة كاملة من هنا تستولي العين على مشهد السهل الفسيح الممتد إلى حدود التلال الجنوبية والغربية التي يتوارى خلفها منبسط مكناسك ضياع متفرقة هنا وهناكن حقول على شكل مستطيلات ومربعات تتخللها قطع أرضية حرثت حديثا. إنها لوحة فسيفساء كبيرة ممتدة تسكن السهل الذي كرت عليه حوافر خيول الرومان الغازية وتفصد على ترابه عرق الموريين وسالت دماؤهم”(220).
وبالرغم من أن السرد والوصف يعتبران عمليتين متشابهتين لأنهما يتكونان معا من الكلمات ويؤديان وظيفة نصية واحدة، فإنهما مع ذلك يختلفان من حيث الهدف: فالسرد يشكل “التتابع الزمني للأحداث” والوصف يمثل” الأشياء المتجاورة، والمتقاطعة في المكان”. ومن هنا مبعث العلاقة التعارضية التي تباعد بينهما وتجعل الواحد منهما بمعزل عن الآخر”، كما  سيصف  معاناة البطل جواد الأطلسي من عسر الكتابة وآلامها ، أثناء كتابته لرواية” لفتى الموري”، وتم التوغل في الوصف بشكل أعمق لرصد الحالة النفسية للبطل، من خلال  الإحالة على ما يفكر فيه الكاتب، قبل كتابة الرواية من أحداث، وهو يرسم الخطاطة، التي سيكون عليها الجو العام للرواية خلال العهد الروماني . وأجواء الاحتفال  بعيد الشكر” شكر الاله جوبيتير، وكشفه عن شخصيات الرواية الأساسية أيدمون وسيلينا.  
كما قام بوصف دقيق للعيادة، ومكتب الطبيبة نوال الهناوي، والحالة النفسية التي كان عليها عياش وتوتره الجلي، وهو  في غرفة الانتظار. أو من خلال الانطباع الأولي، الذي استنتجته الطبيبة من دراستها لملامح تهامي، خلال الجلسة الأولى” بدا لي رجل من ذلك النوع الميال إلى إخفاء المشاعر، أحسست أن عينيه تختزنان شيئا من الحزن، ومع الحزن لمست في نظراته شيئا غريبا. الشخص أمامي أبعد ما يكون عن مريض نفسي”(63) إلى جانب وصف الإحساس الداخلي، ورصد تداعياته المتجلية في الإشارات والحركات” “امتدت يد تهامي وتناولت يدي اليسرى فظهر بريق الرغبة في عينيه.”(34).
في حين سيقابل هذا الحوار الصامت وصف تهامي لمكتب الطبيبة” حاول أن يطبع في مخيلته معالم الغرفة. كل قطعة من أثاثها، ستكون شاهدة على بوح ماراطوني يخص به هذه الطبيبة، التي قاده إليه صوتها الأثيري، على محطة الإذاعة المحلية.”(64) كما يقدم  تهامي الأحداث من زاوية نظره الخاصة، ويستلم مقاليد السرد في اللحظة التي توقفت فيها مذكرات الطبيبة.”كانت ساقاها القصيرتان مفتوحين تقريبا، وركبتها اليمنى مسحوبة إلى الأعلى، فاتخذت الساقان زاوية شبيهة بالساعة العاشرة ليلا وخمس دقائق” (353)، وهذا المعطى الزمني سبقت إليه الإشارة أثناء الوصف الداخلي الذي قام به جواد لغرف البيت القديم.” كانت هناك ساعة حائطية محطمة فقدت عقرب الثواني والدقائق معا، وظلت تشير بعقربها اليتيمة إلى الثانية عشرة. لقد حاول أن يتخيل زمن توقف هذه الساعة، وتساءل مع نفسه أكان الوقت زوالا أم منتصف ليل من ليالي وليلي؟”من كان محطمها؟ وما دافعه إلى اقتراف فعله ذاك في حق آلة الزمن الخرساء؟” (15). فالوصف  وظف كمدخل لتكسير خطية السرد بسلاسة ولسحب القارئ مباشرة نحو الموضوع  الجديد الذي ينشد الكاتب عرضه، من خلال انتقال سلس، وهادئ. إلى جانب توظيف تقنية أخرى، وهي الحلم.

 توظيف الحلم

يعتبر الحلم هو الأساس، الثالث  في مغامرة كتابة الفسيفسائي، وهو حلم مشترك بين كل شخصياتها، لنتساءل، كيف يمكن الربط بين حلم جواد الأطلسي للنقش الملون على أرضية الفسيفساء،(94)  والحلم المتكرر الذي يجسد المرأة السمراء، عند بوابة وليلي الشمالية، واللوحة الفسيفسائية التي تجسد أسطورة هاديس وبيرسيفوني؟(195)، وبين لوحة سالبوس، التي تجسد حلم الشعب الموري التواق للحرية؟ وحلم  الكاتبة الأمريكية أريادنا نويل، التي جاءت إلى وليلي موفدة من قبل لينا تومبان، مسحوبة وراء حلم من فسيفساء؟ لماذا أسست نواة مشروعها الروائي على حلم بطلها “جواد؟ الذي رسمته حبرا، وولجت عالمه الداخلي، تسرده تارة، وتارة أخرى تجعل منه ساردا تسلمه دفة السرد، وهو يحكي عن يومياته هناك؟ لماذا ضمنت روايتها حلم جواد بحذافره؟ ” لم أنس شيئا من يوميات جواد كما حكاها لي”، لماذا أخبرتنا أنه حلم “لم تردد في كتابته ووجدت فيه شيئا “من شخصياتها الحبرية البوهيمية المكابرة. “كان فيه شيء مني لذلك صادقته”؟ (11) . ولماذا تم الربط بين الحلم الذي رآه البطل، وصورة الفسيفساء باعتباره ربط حتمي بين الصورتين؟  فالتمع في ذهنه” ربط حتمي بين الصورتين”، هذه الفسيفساء تحمل شيئا من داك النقش الملون، الذي رأيته على أرضية الحلم”(95).
في حين سيرد الحلم في رواية “الفتى الموري” على شكل حلم متقطع، رواد جواد عبر مراحل، ودون  في اليوميات، وشكل اكتمال معالمه، المآل القاسي، والمفجع لبطل الرواية أيدمون في النهاية. كما شكل  نقطة تحول في مسار البحث عن اللوحة المفقودة، في رواية “ليالي وليلي” ” حلم رأيتني فيه جالسا على فسيفساء رهيبة، حلم وشم ذاكرتي  كقدر. أنا الذي سطرت الأحلام جل أقداري، حلم لم أستعد قط كونه نبوءة، مثل أحلام شاهقة رأيتها في منامي، ولم تتأخر الأيام في ترجمتها إلى واقع ملموس عشته بجوارحي… يدعوني كي أخرجه إلى الوجود، كي أصنعه بيدي”(127).  وبعدما تحرى جواد عن مشهد الحلم في الفسيفساء والنقوش التي طالعته، تأكد له أنها غير موجود. يقول السارد” ملأتني قناعة بأن هذه الفسيفساء لا توجد إلا في رأسي الذي حلم بها ليلتها”(249).
وستتطابق  تفاصيل الحلم، مع اللوحة الفسيفسائية التي سيكتشفها فيما بعد “أنظر إلى ما بين ساقي المنفرجين، فأرى زخرفة تنبعث منها هالة لونية باهرة… امرأة سمراء جبهتها عريضة والدقن حاد، يغطي عنقها وكتفها شعر أسود طويل، وبجانبها رجلان أحدهما أسمر والآخر أبيض. الأول يسدد طعنة نجلاء إلى قلب الثاني بخنجر على وجه الرجل الأبيض ترتسم نظرة فزع، نظرة احتجاج يائس”( 247/248 )
ونلاحظ أن تشبيه سيلينا لعناق أيدمون لها، عندما اختلت به بضفة وادي خومات،” عانقني، كانت له رائحة فحولة مدوخة، تماهينا في عناق طويل كأنه الأبدية”(185) يشبه العناق الذي ذكره أيدمون، في وصفه للحلم،  الذي قابلت فيه المرأة ،الرجل في الحلم الأول” وهناك كان رجل طويل في انتظارها هرعت إليه وارتمت في حضنه… طال عناقهما حتى أنهما لم يكترثا  لاسراب الخفافيش”(20)، وسوف يتم توظيف الحلم الغريب الذي داهم جواد، كمنطلق لتطور الأحداث، بل وتأزمها في الرواية. حلم اعتمد في رصد تفاصيله على كرونولوجيا، وظفت طريقة ليالي “ألف ليلة وليلة”: الليلة الأولى، فالثانية، فالثالثة، إلى أن “أزهر حلم الفسيفساء بين أصابع جواد مدادا، فكتب مقاطع مستوحاة من فضاء وليلي، وربطها بالفسيفساء التي رآها في الحلم، فاستوت عنده فكرة الرواية، فبدأت شرارة تشكيلها تكبر بداخله.”(85)
وهو حلم سيسرقه، ويأخذه معه خيالا وجسدا إلى قلب المدينة الأثرية، من خلال السرنمة، في الوقت الذي كان يتوهم أنه يقتفي أثر المرأة السمراء. لكن في الواقع كانت السرنمة تقوده نحو إماطة اللثام، عن قطعة فسيفسائية ضائعة.”اللوحة الثالثة”. التي” تجسد مشهد اغتيال محارب موري لقائد روماني أمام دهشة امرأة سمراء (379). وبعد جمع أجزاء اللوحات الثلاث  MAURIS ROANIS VICERUNT “الموريون يتغلبون على الرومان”. اللوحة الفسيفسائية تجسد حلم من أحلام الموريين، حلم بالانعتاق، حلم وطنوه في هذه الفسيفساء.”(382) وسيتم في رواية “الفتى الموري”  التطرق إلى ملابسات  تشكيل وصنع هذه اللوحة، التي ستتعرض بدورها  للسرقة من الموقع الأثري في النهاية.
في حين جسدت اللوحة الفسيفسائية في البيت القديم، “بيت لينا تومبان”، صورة جانبية لامرأة فاتحة السمرة، لا ترتدي غير وشاح أبيض قصير. تلفه حول جذعها.. الساقان منفرجان قليلا، الذراع اليمنى مقوسة ممدودة إلى الأمام، واليسرى مضمومة تتجه كفها إلى فم المرأة المفتوح بشكل مدور، علامة على الدهشة. الذراع المثنية تغطي نصف الثدي الأيسر، أما الأيمن فنافر بادي الاستدارة أسمر الحلمة. البطن ضامر. ونصف الفخذ الخارج من قطعة القماش البيضاء فيه امتلاء.”(94) وهذه الوضعية  التي تم وصفها بدقة عالية، ستجسد حركاتها، كل من الشخصيات التالية: سيلينا، وسعاد، وتوسمان على أرضية الفسيفساء، أثناء ممارسات أيروسية.

 حقائق التخييل الذاتي

تم توظيف حقائق التخييل الذاتي عبر رصد مصائر متقاطعة، ويبرز هذا، من خلال إدراج نتف واضحة المعالم،  من سيرة جواد الأطلسيي الذي اتخذ أكثر من اسم ! وكانت له أكثر من علاقة مع نساء داخل المتن الروائي بأجرائه الأربعة.  جواد الشاب القادم من قرية أطلسية، تميزت “بهوائها القاسي”(87)مجاورة لمنجم كبير. عاش  طفولته قاسية . برز كبطل، في رواية ليالي وليلي، وتمت الإشارة إلى علاقاته الحميمة مع شخص سعاد، وهي أم أحد تلاميذه، تعاطف معها في البداية، لكنه سرعات ما تورط معها في علاقة غرامية. وظل موقفه منها ملتبسا بين الإشفاق والإعجاب “بصمود امرأة قوية” (91) إلى جانب ما نسجه من علاقة  مع أريادنا نويل، التي قالت عنه أنها كانت “محظوظة أنا لأن جواد الأطلسي كان في (انتظارها) هناك على أعتاب فوليبليس الأثرية” (11) وتمت الإشارة إلى اسم الكاتب، صاحب رواية ” الفتى الموري” ناصر العيسى(450)، وهو كاتب واعد له مؤلفات” عمى الأطياف” و”عش العنقاء”451، تأهلت للقائمة النهائية لجائزة عربية مرموقة بالإمارات” (451) بدا له التشابه واضح بين الروايتين” عمى الحب” و”عش الدبابير” (451)، تم تغيير اسم المعلم الشاب، وحرف عنواني مؤلفيه، وحافظ على كل تفاصيل حياته بما فيها ذلك العلاقة الملتبسة بالكاتبة الأمريكية أليس مور( أريادنا نويل) (452)، ما كان لمراد أن يصل إلى هذه الحقيقة لو لم يقرأ في الرواية حل لغز جريمة قتل أليس مور”(452)، قرر حضور حفل التوقيع للقبض على المجرم.(399)” ومن بين هذه  الاستراتيجيات: اقتحام المؤلف لروايته معبرا عن صوته الخاص،  وذلك من خلال طراق عديدة تستحضر التعاليق والهوامش،  ومخاطبة القارئ ومحاورة النقاد والناشرين،  وطرح التساؤلات، وزرع التشكيكات” (1).
وتتقاطع سيرة جواد الاطلسي، مع شخصية أيدمون في رواية “الفتى الموري” من خلال مجموعة من الملامح، النفسية، والاجتماعية، كالانتماء لأسرة فقيرة، و تمتعه بموهبة إبداعية فذة، وكفاحه من أجل تحقيق الذات. وتعرضه في النهاية لمآل غير متوقع، جواد سرقت منه  روايته (الفتى الموري)، وسرق منه حلمه في أن يصير كاتبا مشهورا، ويمكن اعتبار هذا الأمر إخصاء رمزيا، بالمقارنة مع إخصاء أيدمون الفعلي، الذي كان بمثابة حكم بالشقاء الأبدي.
في حين تتقاطع سيرة تهامي،  مع  أيدمون بطل رواية “الفتي الموري”، في الانتماء لقرية أثرية صغيرة. وليلي بزرهون مفخخة بأنفاس التاريخ، وفي عشقه للفسيفساء، ومزاولتها، كحرفة تتطلب نوعا من الابداع والإلهام، والإتقان. فتهامي تمكن من الاقتراب من أريادنا، واقتحم عوالمها، بعدما تأكد أنها مهتمة بالفسيفساء الرومانية القديمة. وأخبرها أنه يكتب رواية تستلهم فن الفسيفساء”(405)،  ونفس الأمر حدث بالنسبة لأيدمون مع  وسيلينا، حين قربت الفسيفساء بين قلبيهما. فإذا كانت حرفة الفسيفساء  قد أنقدت تهامي الإسماعيلي من الضياع أثناء طفولته، فإنها  شكلت انعتاقا لأيدمون من بطش الحداد بوكوس، عندما هم باغتصابه داخل الورشة.  كما ساهمت في تحقيق رقيه الاجتماعي. وبالتالي، يبرز تقاطعا  بين سيرتي  فلافيوس المعلم الفسيفسائي، الذي عامل أيدمون بسخاء كبير،  في رواية “الفتيى الموري”، مع سيرة خال تهامي، المعلم الفسيفسائي الذي فتح لتهامي  بيته وورشته، وعلمه حرفة صناعة الفسيفساء.
في حين تقاطعت مصائر بعض الشخصيات النسائية، كسيلينا في “الفتى الموري”، وسعاد، ولينا تومبان، في” ليالي وليلي”، ونوال الهناوي، في “مذكرات نوال النهاوي باخوس في العيادة”، وأريادنا نويل في “ملحق الفسيفسائي”، في كونهن نساء تعيسات، منبوذات، عانين مرارة الحرمان والهجر من طرف أزواجهن. لأسباب مختلفة. وهو ما سوف نبرزه من خلال الجدول التالي:
الشخصية
السبب
الرواية
سلينا
عانت من الفقد بعد إخصاء أيدمون من طرف بوكوس
الفتي الموري
سعاد
هجر ها عاشور بعدما تعرض للصدمة، وشك في قصة عذريتها الملفقة.
ليالي وليلي
لينا تومبان
عانت كثيرا بعد اختفاء زوجها صالح المرشد السياحي، الذي سقط في بئر قرب القلعة البرتغالية، بعد فترة قصيرة من زواجهما، وكان من بين أسباب رحيلها عن مكان أحبته كثيرا
ليالي وليلي
الطبيبة نوال الهناوي
عانت من الفراغ، والهجر، بسبب اهمالها من طرف زوجها المقاول، الذي فضل مشاريعه عليها
باخوس في العيادة
أريادنا نويل
عانت بسبب الاهانات المتكررة، من طرف زوجها الذي لم يكن يعترف بموهبتها الأدبية
ملحق الفسيفسائي
زهرة
عانت من ألم فقدان ابنها الوحيد سامي، الذي قتل من طرف زوجها تهامي، فأصيبت بصدمة نفسية
باخوس في العيادة
 
لنخلص أن أغلب الشخصيات النسائية، متحن من معين، الحرمان، والقسوة، والضياع، والألم، لكن بدرجات متفاوتة.

 التشظي أو  الكتابة الفسيفسائية

جاء في مقطع فريد داخل الرواية، أن” الفسيفساء حب قبل أن تكون صنعة. إنها الشغف الممزوج بلعب الطفولة. هي البهجة التي تتيح للعين والأصابع أن يلتقيا على مبعدة من الجمال الحقيقي، وعلى مقربة من تخومه المسورة، فيتفقا على أن يتضافر جهداهما على الإدلاج في سراديب المعنى، على الرقص فوق أرضية يصنعانها من قطع وحصيات مندورة لاحتواء ضروب ذلك الجمال الحقيقي ورأم تشكيلاته العصية”(200)
فمكونات الرواية الفسيفسائية،  تبرز من خلال  جمعها بين أكثر من رواية، داخل رواية واحدة، إلى جانب تضمين الأغاني، والمقتبسات، و الترجمة، واللغات، والتشكيل، والسينما، والأفلام التلفزيونية، والوصف، والميتاسرد، والخبر الصحفي، و الملصق الإعلاني، والسيرة، والتاريخ، والفيلم الوثائقي، والتناص، والسيرة الذاتية، والسيرة الغيرية، وصناعة الفسيفساء، والهوامش…. ” إن بناء الرواية الجديدة القائم على عدم الربط بين الظواهر، ورفضه مبدأ العلية والسببية في بناء الأحداث وتمرده على جماليات الوحدة والتماسك والنمو العضوي، وتحطيمه مبدأ الايهام بالواقعية، إن كل هذا يعني أن العالم يتصف بالغموض والارتباك والفوضى. وأن ظواهره” المتجاورة” و”المتباعدة” و”المتنافرة” و”المتوازية” عصية على الفهم أو التعليل” كما أن مضمون الرواية حسب ما ورد في ملحق الفسيفسائي هو ” فسيفساء روائية حقيقية ربطها جواد باللوحة الفسيفسائية التي تنام في بيت لينا”(384)، وبالمثلث الفسيفسائي  الذي أبدعه الفتى الموري أيدمون، وأسكنه بيت مواطنه سالبوس بالحي الغربي، هو الذي ألهم تهامي الاسماعيلي فكرة  صنع ثلاث تابلوهات فسيفسائية روائية”من مسودات الروايات الثلاث”، واكتشف  أن أريادنا تمكنت من معرفة تفاصيل خطته،  وجعلت من قصة جواد، تحريا أدبيا موازيا  في روايتها، لتحري ” الفسيفساء المفقودة”(419). وغضب بعدما اكتشف أن أريادنا نبشت في قضايا مقلقة، وقد “جعلت من نفسها، واحدة من شخصيات الرواية إلى جانب جواد، وتم استعمال اسمه”الحقيقي”(420). كما عثرنا على توظيف كلمة الفسيفسائي من قبيل أريادنا،  عندما لقبت تهامي بالفسيفسائي، أكثر من مرة. “سوف يسعدني ذلك يا صديقي الفسيفسائي”.(421)
“و لغة الرواية ليست واحدة. فهناك مستويات متعددة، وأحيانا نلحظ تمردا على اللغة المالوفة وتراكيبها وقواعدها” (2) إلى جانب توظيف لغة فسيفسائية، كما في هذا المقطع الذي يكشف عن تدخل تهامي، في ملء الفراغات بين الروايات الثلاث،” طفق الفسيفسائي الذي يسكنني، يملأ الفراغات بين القطع بالحبر. وانبرى لملء الفواصل، ومد التقاطعات بين الحكايات.. ومسح سطح الرواية الكبرى من الشوائب. كما كان وصفه للمخطوطة الروائية، في ملحق الفسيفسائي، أقرب للملاط الذي يهيئ به أرضية اللوحة الفسيفسائية، “تركت مخطوطة الرواية تختمر في حاسوبي، مدة حول كامل.”(445)
في حين تتم الإشارة في روايتي “ليالي وليلي، وملحق الفسيفسائي” أن ” الفسيفسائي الحقيقي، لن يكون سوى صاحب هذه الرواية، وهو عاصم الشبيهي نفسه”(452)، وكذلك عندما  أعجب فلافيوس بأيدمون، وشجعه على مواصلة رصف قطع الفسيفساء” قال لباها  الخباز أني موهوب بالفطرة، موهبة رجل فسيفساء حقيقي”(123)، وكذلك من خلال  الربط بين صورة المرأة  في اللوحة الفسيفسائية، و نظرة  سمراء الحلم عند بوابة وليلي الشمالية،” غادة طويلة فائقة الأنوثة”(95)، والمرأة باللوحة الفسيفسائية، ” تذكرت نظرة سمراء الحلم عند بوابة وليلي الشمالية. “هذه الفسيفساء، تحمل شيئا من داك النقش الملون، الذي رأيته على أرضية الحلم”(95).. في حين سيتجسد الاهتمام بالفسيفساء من خلال لينا تومبان الأمريكية، صاحبة البيت القديم، التي كانت تشتغل على الفسيفساء. وشبه جواد الأطلسي نظرات أريادنا نويل الملغزة  باللوحة الفسيفسائية عند أول لقاء، ” كأني ما تركت الفسيفساء الملغزة في بيتي، وفي فسيفساء روايتي الضائعة، إلا لأجدها تنتظرني في عيني هذه الشقراء، وفي كلماتها الباذخة النبرة”. (233)
في حين تمنحنا رواية “الفتى الموري” أفقا رحبا للتخييل، حيث نرصد روعة الفسيفساء، متجسدة في طيات الأحلام، والأوهام، يقول السارد” حلم رأيتني فيه جالسا على فسيفساء رهيبة، حلم وشم ذاكرتي  كقدر. أنا الذي سطرت الأحلام جل أقداري، حلم لم أستعد قط كونه نبوءة، مثل أحلام شاهقة رأيتها في منامي، ولم تتأخر الأيام في ترجمتها إلى واقع ملموس عشته بجوارحي”(127)، وسيتحرى البطل مشهد الحلم في كل الفسيفساء  التي صادفها في كل النقوش التي طالعته، ولم يصادف منها سوى الهباء. “ملأتني قناعة بأن هذه الفسيفساء لا توجد إلا في رأسي الذي حلم بها ليلتها”.(249)
هذا إلى جانب إصباغ مشاعر من فسيفساء، لوصف العواطف البشرية كما في هذه القرينة السردية التي عبرت من خلالها سلينا عن حبها لأيدمون” حب نشأ كفسيفساء رومانية، وشرعنا نتهجى كطفلين صغيرين ألوان حصياتها المرصوفة على بهجة قلبينا الكبيرين”(183)، وكذلك من خلال تعليقها على لوحة الأسطورية لبرسيفوني وهاديس ” ثمة حياة نابضة في تدرجات ألوان المكعبات، وأحاسيس قوية منبعثة من قلب الفسيفساء. ثمة تضاد تلتقي فيه هنا أمام ناظري لتصنع الجمال: القوة، والرقة، والذكورة، والأنوثة، والشدة، والليونة، إنها قوة العالم السفلي عندما تعانق رقة الربيع. وتتحول حرفة الفسيفساء إلى صانعة للأقدار الجميلة يقول أيدمون “وحدها الفسيفساء صنعت قدر التحامي بسيلينا الشقراء.(312).
وتتجلى تقنية التشظي والانشطار، داخل الرواية وهذه التقنية حيث “كان أندري جيد قد اقترح على تسميتها الانشطار(mise en abime)، المرآوي بناء على ما لاحظه في بعض اللوحات والأعمال الأدبية… وتأخذ كل هذه الأشكال، بطرق متفاوتة، حسب جيد، شكل فن الشعارات،  حيث يتم إدماج شعار داخل شعار آخر. والحال أن ريكاردو (1973) سيشير إلى أن فيكتور هيكو، كان أول من وصف هذا الإجراء الإدماجي، حيث ينقل لهيكو قوله بصدد الانشطار في مسرحيات هاملت. إنه فعل مزدوج يخترق الدراما ويعكسها مصغيرة، فإلى جانب العاصفة في المحيط الأطلسي، هناك عاصفة في كأس الماء. ومن ثم، تتأسس عملية الانشطار على الاختراق والانعكاس والتكثيف”،  وسنلمس هذا الطرح الذي تم توظيفه لغويا، كما جاء على لسان أيدمون” لقد بلغت عقر بيتها أركب بساطا من فيسفساء.
عندما بحث أبوها عن صانع فسيفساء، لاكساء أرضية صالة من صالاته، دلوه على فلافيوس” (195) كما يتم استنطاق مكونات اللوحة الفسيفسائية، إلى درجة تشحن معها المشاعر عبر آليتي التمثيل، والتشخيص كما حدث مع سيلينا بعد مشاهدتها للوحة الأسطورية التي صنعها أيدمون بأرضية بيتهم” أكاد اسمع صراخ برسيفوني العالقة بين تينك الذراعين القويين، وهي تستغيث بالحوريات المرعوبات”… روح بيرسيفوني التي أحببتها، وحسب لأن حبيبي صنعها وأخرجها من غياهب الحكايات الأسطورية، لتتبدى على أرضية بيتنا”(200)، بل ستتقمص شخص برسيفوني، وستمثل  دورها بإتقان، و تحاكي لحظة اختطافها من طرف هاديس” أريد أن أكون برسيفوني. اخطفني ! خذني إلى موتي المشتهى. إلى العالم السفلي ! واجعلني ملكة على عالم الموتى”(201)، كما تتقمص اللغة الأيروسية، ملامح التشكيل الفسيفسائي،  وتستنطق مكوناته بسلاسة وعذوبة. 
وهو الدور الذي سيتماهى  أيدمون في تشخيصه معها، يقول” أدنو منها وأحملها بين ذراعي. أرفعها، تماما مثلما فعل هاديس ببرسيفوني في الفسيفساء النائمة تحتنا… لم أعد أسمع غير وقع نداء روماني متكتم يندلع من زوايا صالة الطعام العارية، إلا من الفسيفساء التي تزين أرضيتها.. كان نداء مكتوما يتصاعد دافئا من قلب الفسيفساء، مطبوعا بأنفاس سيلينا”.(245:244،243)،  ونفس اللغة الفسيفسائية سيتم  توظيفها عبر آلية الوصف، لنقل تفاصيل العلاقة الحميمية بين توسمان وأيدمون التي وصفها ب” أنثى تتضور شوقا إلى الملامسة، إلى المداعبة لإخماد لهيب جسدها الفوار، الذي لا تقوى على تحمل رغائبه، وإملاءاته الجموحة.. فانخرطت بسلاسة في فسيفساء اللذة، التي ساقتها إلي صنعة المكعبات الشرسة” (312). وإذا كانت  اللغة الفسيفسائية  قد وظفت للتعبير عن مشاعر الفرح، سنلاحظ أنها وظفت كذلك للتعبير عن المواقف الدرامية والمأساوية،  خصوصا بعد حادثة إخصاء أيدمون، حيث جاء على لسانه:”حبيبتي سيلينا، لن أكون رجلا في حضورك بعد الآن. ومن أنا بعد ذكورتي يا حبي الجميل؟ مجرد أنثى نزفت مثلما نزفت على فسيفساء برسيفوني إلهة الربيع”. (328)
لقد تم توظيف اللغة الفسيفسائية في سياقات مختلفة، و عبر العديد من التقاطعات، التي وردت في المتون الأربعة التي تشكلت منها هذه الرواية،  باعتبار صنعة الفسفساء كانت منقذا من الضياع بالنسبة لتهامي عندما أسر بالأمر لطبيبته النفسية في مذكرات (باخوس في العيادة) “طفولتي كانت قاسية يا دكتورة، لم ينقدني من قسوتها سوى صنعة الفسيفساء”(142) عندما  أرسلته أمه عند خاله الذي كان  يمتلك ورشة فسيفساء”(143)بفاس،” وأ بدع لوحاتي الخاصة، المشكلة من ورود ونجوم وشموس، وأغصان وفراشات محلقة وغيرها مكنته من إبراز موهبته، ونال إعاب كل من زار الورشة.(152) ” والروائي الجديد يتدخل بصورة مباشرة وغير مباشرة، بل يتعمد مخاطبة القارئ ومحاورته كما يتقصد التعليق والشرح، وكل هذا من أجل تحطيم مبدأ ” الإيهام بالواقعية”. و تتقاطع تفاصيل هذه الحكاية  المرتبطة بصناعة الفسيفساء، مع قصة أيدمون و فلافيوس، في بداية مشواره في رواية “الفتى الموري”.  عندما التحق بورشة  فلافيوس اندلعت بمخيلته رسومات، ومشاهد كثيرة، صارت تدعوه” بإلحاح إلى ترجمتها في فسيفساء ناطقة.”(127).

إدراج الأشكال التعبيرية ضمن الجنس الأدبي

لقد تمكنت رواية الفسيفسائي، من إدراج أكثر من شكل تعبيري بداخلها، مذكرات، ليالي، رواية، قصص، قصائد، أغاني، لوحات، أفلام، ملحقات، مقتطفات من الجرائد، إعلانات، مقتبسات، أساطير، سينما،تاريخ… ويشير أحد الدارسين،أن المسألة تتعقد جديا “عندما تدرج أشكال تعبيرية جوهرية ضمن الجنس الروائي (اعترافات، مذكرات خاصة، إلخ.) فتلك الأجناس أيضا تدخل لغاتها، غير أن هذه الأخيرة ينظر إليها، قبل كل شيء، على أنها وجهات نظر مؤولة و”منتجة”، مجردة من الاصطلاحات الأدبية، وتوسع الأفق الأدبي واللساني، مسعفة الأدب على غزو عوالم جديدة من المفهومات اللفظية التي سبق الإحساس بها، وإخضاعها في مجالات أخرى من حياة اللغة- في مناطق خارج- أدبية”..
وسيستمر هذا التوظيف في ملحق الفسيفسائي، من خلال حديث تهامي مع لينا تومبان عبر الهاتف عن مضمون الرواية باعتبارها “فسيفساء روائية حقيقية، ربطها جواد باللوحة الفسيفسائية التي تنام في بيت لينا” (384)، وتعقيبها بكونها ” عرفت أن سر الفسيفساء، سوف تسكن زائرها الجديد، المنذور لنزوات  الحبر” (395)، في حين ستتم الإشارة إلى العملين الروائيين اللذان سرقهما تهامي” معي الآن مخطوطتان، قطعتان فنيتان، تحفتان فسيفسائيتان في روايتي “باخوس في العيادة” و”الفتى الموري” يمكنني أن أمزجهما وأصنع منهما رواية واحدة”(391)، وبعدما تمكن تهامي من حيازة الرواية الثالثة “ليالي وليلي”” هاهي القطع الأدبية الثلاث جاهزة الآن.
أخيرا، غدت التابلوهات الفسيفسائية في متناول اليد، بعد أن رصف قطعها الداخلية ثلاثة فسيفسائيين مقتدرين” جواد الأطلسي، وأريادنا نويل، ونوال الهناوي”(441)، ويصف نفسه بالفسفسائي” أنا الفسيفسائي، أخط لكم هنا قطعة أدبية، زخرفت على أرض وليلي. شخوص لوحاتي الفسيفسائية ما زالت تصر على العيش معي، على نحو واقعي”(441)، كما يتم الحديث عن الكيفية التي كان يعد بها الرومان لوحات الفسيفساء والمكونات التي كانوا يستعملونها من تشكيلات، رصف المكعبات وإعداد فرشة الملاط والجير والرمل، وقطع رخامية مسطحة مغلفة بقماش.(376)

توظيف لغات سمعية و بصرية وفنية

تم توظيف لغات بصرية داخل الرواية من قبيل السينما من خلال الحديث عن فيلم ” بين هور” الملحمي” من إخراج وليام وايلر. والإشارة إلى فيلم سبارتاكوس” للمخرج ستانلي كوبريك” ثورة العبيد” استنادا إلى رواية الأمريكي هوارد فاست(225)، وتوظيف شريط فيلم المسحورة، لألفريد هيتشكوك”(360) بطولة أنغريد برغمان وعريغوري بيك(361) وفيلم “أمير المد والجزر” و”فيلم المسحورة”(335)، ويقارن  سينمائيا أريادنا بكيم باسنجر رفقة جيمس بوند في فيلم “لاتقل أبدا مرة أخرى”. ويشير الناقد نور الدين محقق، أن الكاتب “الروائي مثله مثل المخرج السينمائي، هو “صانع صور” لكن هاته هي صور من كلمات، فهو يخلق صورة لشخصية كما يخلق صورة لزمنها ولفضائها، إضافة لخلقه صورة للأحداث التي تقوم بها، معتمدا في ذلك على عملية الوصف الشامل لها والمحدد لمجمل عوالمها.”(37)
كما تمت مناقشة بعض  الأعمال الروائية العالمية”موت في البندقية” التي تم تحوليها إلى فيلم للمخرج ” لوتشينو فيسكونتي” وتمت المقارنة، بين المادة الروائية، والفيلم وطرق التناول والمعالجة، مع الإشارة إلى فيلم آخر” سايكو” 354/355) ويشير الأستاذ نور الذين محقق، أنه” إذا كانت الرواية جنسا هجينا، بمعنى أنها قابلة لاحتواء مختلف الأجناس الأدبية، فإن السينما في مقابل ذلك، ممثلة هنا بالفيلم السردي، تبقى أشمل منها، فهي تضم… أجناسا فنية خارج لغوية، في مقدمتها التصوير الفتوغرافي، والتشكيل الرسمي، والإيقاع الصوتي الذي يتكون من عناصر ثلاثة هي، القول التلفظي، والموسيقى، وباقي المؤثرات الأصواتية الأخرى” كما تمت الإشارة إلى  الاحتفال بعيد  الشكر، شكر الإله جوبيتير،  وقدم السارد آراءه ومواقفه من الأحداث التي ينوي كتابتها، والشخصيات التي سيوظفها إلى جانب الكتابة على غرار سيناريو فيلم ” بين هور”(165)، إلى جانب إشارة الاحتفال بعيد المولد النبوي. وحسب مخاييل باختين فالتعدد “اللساني المدرج في الرواية( مهما تكن أشكال إدراجه) هو خطاب الآخرين داخل لغة الآخرين، وهو يفيد في تكسير التعبير عن نوايا الكاتب. وهذا الخطاب يقدم التفرد في أن يكون ثنائي الصوت.إنه يخدم بتأن، متكلمين ويعبر عن نيتين مختلفتين: نية مباشرة- هي نية الشخصية التي تتكلم، ونية- مكسرة- هي نية الكاتب. مثل هذا الخطاب يشتمل على صوتين، وعلى معنيين، وعلى تعبيرين. فضلا عن ذلك، فإن الصوتين مترابطان حواريا وكأنهما كانا يتعارفان “مثلما يتعارف ردان في حوار، ويتشيدان داخل تلك المعرفة المتبادلة”، وكأنهما كانا يتحادثان سوية”

توظيف الأغاني

لقد لمسنا توظيف وسائط سمعية من قبيل الأغاني:
 أغنية لشارل أزنفور (66)، وأغنية “بريفر” لسيرج غينسبورغ” (360) ” وأغنية قبلة فرنسية في أمريكا” ديبورا هاري (350)، وأغنية ما يكل جاكسون triller“(415). كما تمت  الإشارة إلى الأصوات”أهي أصوات تسكن أرض هذا البيت؟”(83) ” ويصف اللغة” رطنة أشبه بالأمازيغية قادمة من الأعماق”(84)،إلى جانب توظيف اللغة الإيطالية(اللاتنية) والفرنسية، والعربية، إلى جانب توظيف المقتبسات والهوامش والترجمات، والكلام المأتور، والخبر الصحفي ومن بين الاستراتيجيات التي يتم توظيفها كذلك ويشير الأستاذ احمد فرشوخ أن”: لاقتحام المؤلف لروايته معبرا عن صوته الخاص،  وذلك من خلال طراق عديدة تستحضر التعاليق والهوامش،  مخاطبة القارئ ومحاورة النقاد والناشرين،  وطرح التساؤلات، وزرع التشكيكات”.
كما يستشهد السارد، بمأثورة للروائية الأمريكية روزا نيل  هيرشون. حيث تقول” ليس ثمة واقع أكثر رعبا من أن يحمل في وجداننا قصة لم نرويها بعد” (395)، ووظفت الهوامش للترجمة أو للتعليل، أو لسرد معطى تمت الإشارة إليه في الرواية بشكل مفصل، كما حدث مع أسطورة بيرسيفوني وهاديس، ومن خلال المقتبسة حين تمت الاشارة إلى الموت على لسان إدغار ألان بو” وفاة امرأة جميلة هو حتما الموضوع الأكثر شاعرية في العالم”(389) ويتم إدراج الخبر الصحفي والاعلان الثقافي  من خلال الإشارة إلى جريدة ذوفور فرانت الملحق الثقافي الأربعاء 15 يناير 1992خبر حول رواية ” أرض المستحيل” (408)، وحول خبر رواية ” لاعب الغميضة” يقفز إلى صدارة قائمة الكتب الأكثر مبيعا”(416) في نفس الجريدة “ذو فورفرانت الملحق الثقافي الاثنين 7 مارس 1994. وتضمين  الخبر عن طريق الإعلان” حول حفل ” توقيع الرواية بالمكتبة الوسائطية محمد المنوني بمكناس” 27 دجنبر 1997 على الساعة الخامسة مساء. (453) وإذا كانت هذه الاقتباسات- وغيرها كثيرة في الرواية…( فأنها) تدل على مفهوم الكاتب الروائي للكتابة، وأدواتها، وشروطها، ومهمتها فإنها تدل -في الوقت نفسه- على إعلاء شأن الكاتب … الأديب المبدع.. “حسب الستاذ شكري عزيز ماضي.

الاشتغال على الميتا سرد

 كانت ملامح توظيف الميتاسرد بارزة المعالم، بحيث هيمنت لمسته على الأعمال المذكورة ، وتم تقديم موقف من الروايات الثلاثة في نهاية الرواية الرابعة، لنتساءل عن  الهدف من وراء هذا التوظيف؟ هل استعمل  للتلاعب بالقارئ؟ إلى جانب رسم مجموعة من التقاطعات ومد الجسور بين مختلف أجزاء الرواية ومكوناتها بشكل  رهيب كشف عن”صوت الكاتب  وطريقة اشتغاله. “بضمير المتكلم” مزجت النصوص الثلاثة وأدخلت صوتي ساردا مشاركا، وساردا أعلى، وكاتبا في آن محافظا على خصوصية كل رواية… لم أغير فيها إلا ما نذر، باستثناء أسماء بعض الشخوص التي بدلتها”(441)، كما تخيل نفسه  في ملحق الفسيفسائي، أنه يبدو كشخص حبري” ثقيل البأس بين ثنايا سرودهم، إلى أن انتشلتني وبرأتني مقام السارد الأعلى الذي ينظر من نقطة نائية.. كما لو أن لا علاقة تربطني بهم”(442). كان لا بد من أن أجد طريقة أسير على هديها للملمة أجزاء الرواية وتنظيمها” (442)..
كما برزت معالمه “الميتاسردية”من خلال الهوس بالكتابة كما عبرت عن ذلك أريادنا نويل” أنا التي خبرت نكهة ذلك الهوس الجبار، وجربت مذاقه الحريف على لساني عندما تستلبني جذبة الكتابة”(86)،  وجاء في سياق حديثها  عن روايتها الأولى،  حين أخبرت تهامي إسماعيلي، أنها مجبرة على كتابة رواية كل سنتين، حسب الاتفاق الذي عقدته مع إحدى دور النشر الأمريكية” بعقد لست سنوات ألزمها بكتابة رواية كل سنتين، وأنها وقعت مرغمة معهم لكي ترى أرض المستحيل النور” (416)” ويكون هذا الترابط الذهني بين النص ومختبره، باعثا على بروز ظاهرة” الرواية داخل الرواية” المشخصة لمشكلات الصنعة الأدبية، الراصدة لطبيعة الوعي الحرفي المتحكم في الإنتاج الفني.” حيث تكشف اريادنا السر وراء نجاح أعمالها. ” السر في اعتقادي، هو أني أتخيلني قارئة وأنا أكتب. إذ أضع نصب عيني قارئا ذكيا مغرما بالمتعة وأحرص على أن أكتب له وليس لي” (417)”
إن التعدد اللساني المدرج في الرواية ( مهما تكن أشكال إدراجه) هو خطاب الآخرين داخل لغة الآخرين، وهو يفيد في تكسير التعبير عن نوايا الكاتب. “. وكذلك عندما تحدث تهامي عن روايته الأولى”كتبت رواية تحكي عن تحريات في جريمة وحشية غامضة راح ضحيتها طفل، ولم يكن الجاني سوى أبيه النحات. وقد دفعته إلى ذلك رغبته في الزواج من عشيقته الرسامة التي لا تستسيغ فكرة أن يكون لزوجها المستقبلي أولاد من امرأة أخرى” (267)، ومن خلال حديث جواد العيسى عن روايته “عش الدبابير” التي بلغت اللائحة النهائية لجائزة عربية مرموقة. وعن روايته ” عمى الحب” التي فازة بجائزة اتحاد كتاب المغرب.(23)” وبهذا الصدد تشير جوليا كريستيفا، أن” حكايات أنطوان دولاسال تتقاطع مع حكاية كتابته نفسها، فهو يتكلم، لكنه أيضا يكلم نفسه وهو يكتب. إن قصة جيهان دوسانتري تلحق بقصة الكتاب وتغدو بشكل ما تمثيلها البلاغي، أي أخرها وغلافها الداخلي”.
هذا الاشتغال الميتا سردي،  وتمحوره حول  التشكيل والفسيفساء والكتابة، يمكن اعتباره من بين المسارات المهمة المعتمدة داخل متن الفسيفسائي، بحيث  سنقرأ داخل رواية “ليالي وليلي” إشارات عن رواية “الفتى الموري”(83)، وكذلك حين أخبر  جواد أريادنا نويل “كنت منشغلا في الأشهر الأخيرة بكتابة رواية استلهمت فيها فضاء وليلي، لذلك اضطررت إلى الاطلاع على كتب عنيت بالفخار الروماني” (235).  وعقبت عليه بأنه لأمر رائع أن تكون روائيا، وأن”استلهام فضاء وليلي وفسيفساءاتها سيكون له أثر ساحر في روايتك دون شك” (235). وكذلك من خلال الصراع النفسي الذي عاشه جواد الأطلسي، بعدما  شعر بكونه مراقبا من طرف الغير.” لقد انتابني شعور غامض بانني دمية في يد كاتب.. لقد أحسست.. على نحو بالغ الالتباس أنني شخصية في روايته. لكن من يكتبني في هذه اللحظة ؟”مما دفعه للتمرد على نفسه “إذا كان الأمر كذلك فأنا لست جوادا الواقعي، بل صورته الورقية فقط !“(370).
والموقف  الواضح  الذي أبدته أريادنا نويل من الكتابة، بعدما تأكد لها أنها الوسيلة الوحيدة، لإنقاذ نفسها من عنف شريك حياتها. ” لم تعد الكتابة عندي وقتا للتسلية، بل صارت طريقة خاصة في العيش كما قال فلوبير” 371″ ويكون هذا الترابط الذهني بين النص ومختبره باعثا على بروز ظاهرة” الرواية داخل الرواية” المشخصة لمشكلات الصنعة الأدبية، الراصدة لطبيعة الوعي الحرفي المتحكم في الإنتاج الفني.”حسب الأستاذ أحمد فرشوخ.

التوازي الحدثي في رواية الفسيفسائي

ويتجلى من خلال مناقشة أعمال فنية، روائية أخرى بين شخصيات الرواية، تتخذ سمة نقاش يوهم بنوع من الواقعية،فاللوحات الثلاث، الروايات الثلاث، اللوحة الأولى مفقودة ونبحث عنها ومن أجلها قدمت إلى وليلي، سيوازيه الحصول على مخطوط روائي لعملية البحث وأطوارها” ربما أعثر مستقبلا في حقيبتها على مخطوطة تليق بأن تملأ حيز التابلوه الفسيفسائي الثالث”، أوليست” أريادني” المتاهات؟ (397)، سيكتشف المحققون سر الجريمة، وذلك عبر لوحة مقلدة كانت الرسامة الحسناء قد رسمتها وأهدتها إلى النحات في بداية عشقهما. النسخة المقلدة للوحة” إيفان يقتل أبيه” ستقود المحققين إلى الأب الجاني. واخترت لها عنوان “زلة قلم أحمر” كتبتها وطبعتها قبل موت سامي.” الهمتني كتابتها تلك اللوحة الواقعية الفظيعة والمذهلة للروسي إيليا ريبين، صور فيها مقتل إيفانوفيتش على يد أبيه القيصر”(267)، ” ظلت شخصيات تلك الرواية تطاردني في منامي وتوبخني، ومنها من طلت تندب حظها لأنها ولدت بواسطة قلم قدر له أن يبقى في الظل إلى الأبد” (268)..
ويمكننا الربط بين هذا المعطى واكتشاف الشرادي للغز جريمة قتل السائحتين الأمريكيتين، ومقتل سامي على يد أبيه تهامي، مقتل إيفانوفيتش على يد أبيه القصير”، ويتم فتح قوس بين تهامي والطبيبة للحديث عن الأطباء النفسانيين الذين زاولوا الكتابة، ” كتبت نوال السعداوي مذكراتها على شكل رواية” وهنا لابد من الربط بين مذكرات الهناوي،ومذكرات نوال السعداوي. بحيث نلاحظ ممارسة تحريف بسيط للإسم الأصلي. “وكتب ميخائييل  بوغانوف ..مذكراته طبيب شاب أثناء ممارسة الطب بأوكرانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى” (269)، مع الإشارة إلى كتاب الرواية البوليسية، ك”أرثر كونان دويل، وأحاجي أجاثا كريستي، وتحقيقات الفرنسي موريس لوبلان- ومناوراته مع لصه النبيل- أرسن لوبين- مارجيري ألنغام” (447) وإلى شيلدون عراب الرواية البوليسية في هذا القرن (448)، وكذلك حديث لينا عن محاولات تهامي  في الكتابة وحلمه في أن يصبح كاتبا مجيدا، ويصدر رواية ناجحة خالدة” (278) . إلى جانب  تقديم أمثلة لأبطال من الأفلام السينمائية. (335) ” فالرواية أصلا” أدب”،أي نتاج للكلام وموضوع(خطابي) للتبادل، له مالكه(المؤلف) وقيمته ومستهلكه(الجمهور المتلقي).
إن خاتمة الحكاية تصادف انتهاء مسار الحلقة. أما اكتمال الرواية فإنه على العكس من ذلك، لايقف عند حد تلك الخاتمة. فمحفل الكلام يأتي في النهاية على شكل ختام بهدف إبطاء السرد، وبهدف توضيح أن الأمر يتعلق ببناء لغوي تتحكم فيه الذات المتكلمة كلية. تقدم الحكاية نفسها كقصة، أما الرواية فتقدم نفسها كخطاب( بغض النظر عن كون المؤلف- الواعي إلى هذا الحد أو ذاك- يعترف بها كذلك)، بهذا تشكل الرواية مرحلة حاسمة في تطور الوعي النقدي للذات المتكلمة إزاء كلامها”،   وكذلك  عندما أ سر تهامي  في نفسه مخاطبا أريادنا عبر توظيف المنولوغ:” أه لو تعلمين يا عزيزتي أن تهامي، ذاك الكاتب الفاشل الذي كتبت عنه، يجلس إلى جانبك الآن، ويملأ ليلك بأنين زائف”. (428) كما جاء في ملحق الفسيفسائي،  وعن إشكال عسر الكتابة  الذي عانى منه تهامي.  والقوس الذي فتحه شخص ناصر العيسي، عندما أخبر القراء  بشكل مباشر “تركت مخطوطة الرواية تختمر في حاسوبي مدة حول كامل”(445)..
ومن خلال المقتبسات التي تم تضمينها في مقدمة رواية ” ليالي وليلي”حيث جاء أن ” الأدب هو موهبة أن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكايتنا الخاصة” جسب  أورهان باموق، وأن “الأدب مكمل للتاريخ وليس نقيضه” حسب جون بوين (9)، عثرنا  في رواية “الفتى الموري” عن مقتبسة لهوراس جاء فيها ” لا تبحث عن الكلمات. ابحث فقط عن الحقيقة والفكرة. عندئذ تتدفق الكلمات من دون أن تسعى إليها” (35)، و أن “الرواية استشفاء خيالي” كما قال  أحمد السباعي (55)، وفي مذكرات نوال الهناوي باخوس في العيادة، مقتبسة لجول فيرن مفادها ” أن أصل كل عمل إبداعي يكمن في حلم”(9) ” إن الرواية البوليفونية بفعل طابعها الحواري، ليست إعادة إنتاج لإيديولوجيا موجودة في الواقع، بل هي إيديولوجيا نابعة من الشكل الفني، ولهذا السبب وسمتها “كريستيفا” بإيديولوجيا الشكل. وهذه الإيديولوجيا ليست مرتبطة بآراء الكاتب، ولا محددة بهذه الفكرة أو تلك. بهذه الشخصية أو تلك، إنها محايثة لبنية الخطاب الروائي، وهي نتاج مجموع العلاقات البنيوية والتيماتية بين كافة عناصر وأجزاء الرواية”.
عندما أهدت أريادنا لتهامي الإسماعيلي  عمليها الروائيين” أرض المستحيل” ولاعب الغميضة” (407)، ناقش معها الأدب الأمريكي عند كل من هيمنغواي، آلان بو، فوكنر ، وبول أستير،  وفيلد روث، وتوني موريسون،  وفلاديمير نابكوف”(409/410)، كما تمت الإشارة إلى  أعمال روائية ك” ضحكة في الظلام، ونار شاحبة، ولوليتا،(410)، التي دار نقاشا موسعا ومثيرا للجدل حولها. ” إن الثنائية الصوتية الحقيقية، بتوليدها لحوارات روائية نثرية، لا  ينضب معينها من جراء ذلك، وتظل داخل الخطاب، وداخل اللغة، كأنها نبع لا ينضب من الصوغ الحواري، ذلك أن الصوغ الحواري الداخلي للخطاب هو النتيجة الطبيعة اللازمة لتنضيد اللغة تراتبيا”.

الإشارة إلى الرواية كفضاء للنقاش الأدبي والثقافي

رصدنا في بعض المقاطع بالرواية، الإشارة إلى بعض الفضاءات  كالمقاهي، التي كان لها الفضل في نشر الإشعاع الفكري والمعرفي والثقافي، في فرنسا كحانة “لاكوبول الباريسية” التي كانت تحتضن نقاشات بين أكبر مثقفي فرنسا، ومبدعي العالم. ومن بينهم: جان كوكتو، وهنري ميلر، وسالفادور دالي، وجيمس جويس، وإرنست هيمنغواي، وبيكاسو، وأندريه بروتون، وألبير كامو، وسارتر، وسيمون دوبوفوار، وغيرهم”(412)، وحول آليات العلاج عن طريق  الكتابة، تكشف مذكرات باخوس في العيادة، النقاب عن النقاش الذي دار بين تهامي ونوال الهناوي، وهي تقدم له مجموعة من النماذج” جيمس بيكر”( 74) وليام ستايرون ،مارغريت دوراس(75) فيكتور هوجو، واستغلت الطبيبة الفرصة، وفتحت قوسا للحديث عن العلاج عن طريق الكتابة.” أتعرف أن الكثير من الجنود الأمريكين الذين عادوا من العراق في الحرب الأخيرة غدوا ممارسين للكتابة، بوصفها جزء من العلاج النفسي” (265)، كما  قدمت تبريرات عن طبيبات تورطن في حب مرضاهن،  عندما وجدت نفسها مغرمة به.” إن أنا ملت لتهامي فلن أكون المعالجة النفسية الأولى أو الأخيرة من بين اللائي كسرن القاعدة، وتورطن في علاقات غرامية مع مرضاهن.”(335)

الإشارة إلى النهب الممنهج للتراث المحلي

دقت رواية الفسيفسائي ناقوس الخطر حول النهب الممنهج للتراث، وجعلته من ضمن الرسائل المهمة التي بنت عليها موضوعها. هكذا يكتشف جواد حسب أريادنا أن اللوحة الفسيفسائية مسروقة. “يعني أنها لوحة فسيفسائية مسروقة(..) من الموقع الأثري المجاور، وزرعت في أرض هذا البيت”(173)، كما تمت الإشارة إلى سرقة ” لوحة  الفسيفسائية للمحارب الموري، الذي يطعن القائد الرواني والتي” تجسد حلم من أحلام الموريين، حلم بالانعتاق، حلم وطنوه في هذه الفسيفساء “(382)، من مكانها. من الذي كان يقوم بسرقة كل هذه القطع الأثرية الثمينة؟ لماذا لم تتمكن السلطات المغربية من العثور عليه؟ وسرقة تمثال باخوس وغيرها من القطع الأثرية الأخرى. فنهب التراث والتفريط فيه يتسبب في إتلاف جزء من ذاكرة المجتمع المغربي، التي يجب الحفاظ عليها، بل والعمل على استرداد ما وجد منها في متاحف  خارج البلاد.
في ختام هذه الورقة، نشير أن رواية الفسيفسائي لعيسى ناصري، استطاعت بفضل رقي لغتها، وعمق مواضيعها، أن تثير العديد من الأسئلة المقلقة،  جسدتها عبر بنيتها الفسيفسائية المنفتحة على أكثر من مدخل، تعبيرا عن التشظي، واللا يقين، في عالم يعيش على وقع المآسي، والحروب، والألم. إنه الخوف من الآتي، والتذمر من الواقع ، وضابيبة الرؤية،واللاجدوى. رواية كسرت هالة الكتابة المكتملة، ضمن قالب تجريبي متميز. مما يجعلها في مصاف أجمل الروايات العربية، التي كتبت خلال العشرية الأخيرة.
هوامش
  • أحمد فرشوخ، تأويل النص الروائي- السرد بين الثقافة والنسق-، ص
  • شكري عزيز ماضي، أنماط الرواية العربية الجديدة ص،15
مراجع وإحالات
عيسى ناصري ، الفسيفسائي، رواية منشورات ميسكلياني، الطبعة الأولى الثالثة، الجزائر 2023
أحمد فرشوخ، تأويل النص الروائي- السرد بين الثقافة والنسق- طوب إديسيون، الطبعة الأولى ،2006
جوليا كريسطيفا، علم النص، ترجمة فريد الزاهي، مراجعة عبد الجليل ناظم، دار توبقال للنشر 1991
حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، الفضاء- الزمن- الشخصية، المركز الثقافي العربي، طبعة2 ، 2009
شكري عزيز ماضي، أنماط الرواية العربية الجديدة، عالم المعرفة الكويت ،2008
عزيز ضويو، التجريب في الرواية العربية المعاصرة، دراسة تحليلية روائية حديثة، الطبعة الأولى الاردن 2014
ميخائيل باختين ، الخطاب الروائي، ترجمة وتقديم محمد برادة، دار الامان الرباط 1987 الطبعة الثانية
نور الدين محقق، تقنية الكتابة بين الرواية والسينما، مقال مجلة فكر ونقد العدد 75، 2006
(°) ناقد وقاص مغربي، من أعماله “جمالية القصة العربية القصيرة جدا”، “دموع فراشة”، “ذكريات عصفورة”، “مذكرات أعمى”، “أسرار شهريار” (عمل مشترك)، “حياة واحدة لا تكفي”..
error: