غيثة بناني ….بلغي سلامي للشهيد …بلغي سلامي للعريس …

5٬891

عبد السلام المساوي

نحن جيل الصدمة ، فتحنا اعيننا والاتحاد ينطلق انطلاقة جديدة سنة 1975 بجرح انغرس في الذات الاتحادية ، وكان من الصعب التئامه بسرعة ، ففي وقت انعقاد المؤتمر الاستثنائي والانطلاق نحو النضال الديموقراطي بالديموقراطية وليس بشيء آخر ، تأتينا الصدمة الثانية بعد الصدمة الأولى ( صدمة اختطاف القائد المهدي بنبركة في 29 أكتوبر 1965 ) ، ونطعن مرة أخرى في أحد القادة الكبار، ومن حق هذا الجيل وهو يبحث ، ليس عن أجوبة ، بل عن أسئلة جديدة ،أن يستحضر تجربة المهدي بنبركة ، وبعده تجربة عمر ، وهو يفكر في المؤتمر الاستثنائي من داخل السجن ، وعند خروجه من السجن ، بدأ يفرغ كل المخاض الفكري الذي كان يحمله على الورق ، وبدأ في الإعداد بدينامية للتحضير للمؤتمر واستراتيجية النضال الديموقراطي ، والتي كانت متميزة في تاريخ الفكر السياسي المعاصر….
لكن لا بد مما ليس منه بد، حتى ولو كان عبء النعي ثقيلًا وثقيلًا جدا، فلا مناص من التحمل، ولا سبيل إلى الهروب من هكذا عبء وهكذا ثقل. لقد رحلت غيثة بناني وليس رحيلها أي رحيل….إنها رفيقة الشهيد الأسطوري المهدي بنبركة …فهي المرأة التي تستحق منا ألف رحمة …
أيتها الفقيدة الاستثنائية بلغي شهيدنا التحية والسلام ، وأخبريه بأن الاتحاد بخير …
هناك عدد كبير من الأعزاء، أصدقاءً وإخوةً ورفاقًا، رحلوا وهم يرحلون بوتيرة متسارعة مع تقدم عمري وأعمارهم أو بطريقة لا يعرف أسرارها العشوائية غير الموت ربما، لكنه مع ذلك رحيل يبدو من منطق الأشياء. رتابة الحياة الدنيا: ميلاد وفرحته ومرض وآلامه ورحيل ونصيبه المؤكد من الأحزان ومن الدموع. ولكن ذلك يظل ضمن منطق الأشياء. فمن سيدفن من؟ ومتى؟ هذا سؤال متواتر بين الإنسان ونفسه وبينه وبين أحبائه. يقال جهارًا مرات قليلة ربما، لكنه سؤال وجودي عميق ملازم للنفس لا يكاد يغيب عنها حقا إلا في ما ندر من الأحوال.
هذا قدر. هذا قضاء وقدر، نقول عبر لغاتنا المختلفة، استكانةً وخضوعا، تعبيرًا عن يقين عاجز حتى عن التفكير في تغيير منطق الرحيل المتواتر الأبدي بل وعن استعادة السكينة إلى رجة الأعماق وتوتراتها جراء وقع صدمة ساعة الرحيل.
لكن الرحيل الذي يبدو متماثلا في مواصفاته البادية بل والذي يمكن الاعتقاد بكونه وحيد جنسه بين بني البشر، ليس كذلك في الواقع. فكل رحيل فريد نوعه. وهذه الفرادة بالذات هي التي تقف حاجزًا رئيسًا أمام تقديم هذه الكلمة في حق غيثة بناني زوجة الشهيد .
لا أريد الإيحاء بأن كلمتي في الفقيدة مجروحة بحكم علاقات المحبة والرفاقية العالية التي جمعت بيننا ، فأنا لا أعرفها ولم يسبق لي أن رأيتها . ولكن تربطني بها علاقات النضال والكينونة والوجود ….ألم أقل لكم إنها رفيقة الشهيد ! من هنا عشقناها وأحببناها نحن الاتحاديات والاتحاديين …هي امرأة مختلفة ….امرأة واجهت كل الصدمات والمواجع …هي غيثة بناني ولا أحد غيرها …رفيقة الشهيد …
لا تنتظروا مني كلمة الوقائع والأحداث والفواجع ، لأنها لا تفي بالغرض في هذا الرحيل، وفي هذاه الراحلة الكبيرة غيثة بناني بالذات. لذلك اخترت لكلمتي أن تكون كلمة الوجدان العميق، كلمتي الفريدة التي تتلاءم مع هذا الرحيل والفقد والمصاب الفريد.
قد تستغربون إذا قلت لكم اليوم أنني لم أعرف غيثة بناني حقًا…. ولكن أشهد أنني أعرفها منذ زمن بعيد لا بداية له في وعيي وربما في لا وعيي العميق أيضا. لذلك يستحيل علي اليوم أن أقول الكثير حول ما أعرفه عن غيثة . لذلك اعذروني إذا قلت لكم إنها غيثة بناني وكفى ….غيثة زوجة الشهيد .
لكن المناسبة تفرض طقوسها وكل الطقوس لها لغتها ورموزها الخاصة ولست هنا لأتهرب من منطقها لكنني سأحاول قدر الإمكان إخضاعها لما يتطلبه بعض الوفاء لروح امرأة كبيرة وفي مقام مهيب مقام الرحيل ومشهد التأبين.
عرفت غيثة بناني بقلبي. استوطنت الوجدان قبل أن تستقر عيني على عينيها ، بل أشهد أنه لم تستقر عيناي على عينيها أبدا … لذلك فأنا سأنطلق من وجداني في كلمتي المتواضعة هذه في حق فقيدتنا الكبيرة .
نادرا ما تشعر أن غيثة قلقة أو حزينة أو يائسة. بل تجدها غاضبة في الحالات التي تدعو إلى القلق أو الحزن أو اليأس. فلكأن الغضب وسيلتها لقهر أسباب القلق والحزن والقنوط واليأس. وفي ظني أن غيثة بارعة في إدارة معركة الغضب في وجه القلق والحزن واليأس. وهكذا انتصرت على الحالات جميعها فأعطت مثالًا حيًا على التفاؤل الحالم المتوازن وقدمت أكثر من عربون على شيم زوجة الفقيد ، المرأة المتفانية في حب الوطن في خضم الشدائد: شدائد الوطن والشدائد على الوطن.
من هنا أصالة المرأة في حياتها المفعمة بالأحداث الجسام خلال المنعطفات السياسية الكبيرة، تمامًا كما في الحالات الإنسانية الكبرى في حياتها الخاصة وفي حياتنا العامة جميعًا. ومن هنا وجه الفرادة في رحيلها المفعم بالعبر والدلالات .

error: