خنيفرة تودع أحمد بويقبة أحد أبرز اللاجئين للمنفى خلال طاحونة سنوات الجمر والرصاص

267٬436
  • أحمد بيضي
في موكب جنائزي مهيب، شهدته “مقبرة بويجمان” بإقليم خنيفرة، يوم الأحد 21 يناير 2024، تم تشييع جثمان الوجه المعروف في سجلات سنوات الاضطهاد والرصاص، المناضل الراحل أحمد بويقبة، الذي وافته المنية مساء السبت 20 يناير 2024، وقد كان الرجل ممن اختاروا اللجوء إلى المنفى الاضطراري، بين الجزائر وليبيا، إلى جانب صهره محمد أومدا وشقيقه محمد بويقبة، وآخرين، ذلك بعد إصدار المحكمة العسكرية الدائمة، يوم 30 غشت 1973، حكمها على بعضهم بالحكم الغيابي بالإعدام، ضمن ما يعرف بمحاكمة عمر دهكون ومن معه، وتوزعت الأحكام في حق ما تبقى منهم على أرض الوطن بين المؤبد والسجن 20 أو 30 سنة، والإعدام الذي تم تنفيذه، يوم عيد الأضحى 1973، رميا بالرصاص في الكثيرين، بينهم موحى والحاج أمحزون واحماد عسيل (احديدو) مثلا.
أحمد بويقبة واحد من عادوا إلى الحياة من جديد، عبر عفو صدر في حقه، وهو يومها خارج وطنه الأم الذي غادره هربا من موت لا يرحم كان في انتظاره على أرض الوطن، وعندما عاد إليه وجد نفسه دون بيت يأويه ولا أرض ولا أهل، لقد مسح العساكر بيته بالقنابل، ودمروا كل ما فيه من أثاث وأوان وحبوب، وأتلفوا مواشيه ودكوا محاصيله الزراعية، بينما اقتادوا أفراد أهله نحو الظلمات المجهولة لإكرامهم في ضيافة الجلادين بغياهب الزنازن الرهيبة، وبينهم شقيقته عيدة بويقبة، زوجة “قائد الكومندو المسلح” محمد أومدا، والتي كانت من بين النساء الأمازيغيات اللائي لم ينل الجلادون من شموخها، وهي تحت رحمتهم، على مدى ثلاث سنوات وخمسة أشهر، تحت أبشع ضروب التعذيب الجسدي والنفسي.
وقد لجأ أحمد بويقبة نحو الديار الليبية، هربا من الموت، فيما ارتقى معشر الجلادين بوحشيتهم إلى نحو نقل شقيقته، عيدة بويقبة، على متن طائرة عسكرية، من نوع هيلوكبتر، وتعليقها من رجليها في وضعية متدلية، مع التهديد برميها في البحر إن لم تدلهم على مكان زوجها محمد أومدا الذي لم تكن تعلم أي شيء عن مكانه، وكلما كنت أسأل أحمد بويقبة عن الدقائق التي عاشها في المنفى وهو “مشروع ميت”، يجيب بعفوية: “لم أكن أفكر في العودة إلى المغرب”، أو حتى إذا عاد للحلم بالعودة يراها “عودة للموت في ثورة ضد الوضع الذي كان قائما”، وهو ما أكده في شهادته خلال جلسة الاستماع العمومية الخامسة، المنعقدة بخنيفرة، لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، ضمن سلسلة الجلسات التي نظمتها هيئة الإنصاف والمصالحة.
لم أكن أتصور أن ذاكرة أحمد بويقبة ظلت حية في مواجهة النسيان، إذ تحدث لي، في حوار صحفي سابق، عن تاريخ ولادته عام 1939 ببويجمان بآيت خويا، القبيلة التي ستتعرض لسياسة الأرض المحروقة، ثم ولوجه ل “جامع” القرية لتعلم بعض الكلمات والحروف، وممارسته للزراعة وتربية المواشي، إلى حين كتب عليه القدر أن يجد نفسه منخرطا في صفوف المقاومة ضد المستعمر الفرنسي، رفقة صهره محمد أومدا، وانتقاله من حزب الاستقلال إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومنه إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكان قد أخذ موقعه بين “المتمردين على النظام القائم والحكم الفردي آنذاك”، وهو على وعي تام بأن الطريق شاق وطويل ما دام يرى، حسب قوله، أن “البلاد تعج بالخونة والظلم والحيف”، وقد أخذ رفاقه يؤمنون بالكفاح المسلح وسيلة للتغيير.
وفي أوج موجات القمع والاضطهاد والعنف، وانطلاق مرحلة التنسيق مع الخارج، ثم مع الفقيه محمد البصري، عبر آيت زايد الحسين من تنغير (الذي نفذ فيه حكما بالإعدام)، لجأ أحمد بويقبة مع من لجأ من إلى أمكنة متفرقة، ورغم مطاردتهم لعدة مرات، كانوا يتمكنون من الإفلات من الاعتقال ويفضلون ظروف الجوع والعطش عن الوقوع في طاحونة الموت، وظل “الثوار” بالجبال والغابات لأزيد من سنتين، وكلهم استعداد للموت وتقبل نتائج اختيارهم من أجل تحقيق أحلامهم في التغيير والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وأيضا من أجل الانتصار على مشاعر اليأس والإحباط التي كان يعاني منها الشعب ما بعد حصول البلاد على الاستقلال، ولم يفت أحمد بويقبة أن يضع فاصلا بجملة قال فيها “إننا لم نكن ضد الملك بل ضد الخونة والحاكمين والمسؤولين بمراكز القرار”، على حد لسانه.
ويومها أخذ السلاح “يتسلل” عبر الجارة الجزائر لعناصر رفاق أحمد بويقبة، عبر فكيك، نحو كولميمة لإيداعها ببيت حدو اللوزي قبل نقلها صوب “تدغوست” التي انتقل إليها أحمد بويقبة، صحبة موحى والحاج أمحزون، وجلبا كمية منها، وبعدها بأسابيع قليلة نزلت أوامر بالتحرك من طرف محمود بنونة (الذي قتل في الخامس من مارس 1973 خلال مواجهة مسلحة بأملاكو)، وإبراهيم التزنيتي (المعروف بعبد الله النمري، والذي قتل في الثامن من ماي 1973)، وكان الأخير قد عاد سرا من الجزائر إلى المغرب سنة 1971، ونزل في منطقة غابوية، رفقة محمد أومدا وأحمد بويقبة حيث ظلوا في وضعية اختباء، على مدى سنتين، قبل اندلاع ما سمي ب “الانتفاضة المسلحة”، والتي تخللها قتل عون سلطة (شيخ) بسبب تصرف غير لائق تجاه نساء المنطقة، وفق المعطيات المتداولة.
وتم وقتها الاتفاق على موعد الثالث من مارس كزمان لانطلاق العمليات المسلحة، والبداية من مولاي بوعزة بهجوم على ثكنة للمخازنية لأجل الاستيلاء على بعض الأسلحة، وتم فيها اغتيال الحارس الليلي لهذه الثكنة دون العثور على أي سلاح، ما تم وصفه ب “الخطة الفاشلة” التي حملت “الثوار” على الاحتماء بالجبال التي جرت محاصرتها بالعسكر والدرك، وببعض “الحيَّاحَة” ممن تم استئجارهم للبحث عن المُطارَدين، وبعد مواجهات مسلحة عنيفة بين الطرفين، وسقوط قتلى وتسجيل اعتقالات عشوائية، تمكن قائد الكومندو، محمد أومدا من مغادرة البلاد، رفقة صهريه أحمد بويقبة ومحمد بويقبة، وبينما لجأ أحمد بويقبة للديار الليبية، ظل محمد أومدا لاجئا الى أن وافته المنية عام 1986 بعد صراع طويل مع مرض ألم به ودفن هناك غريبا عن وطنه.
وكان الفقيد أحمد بويقبة، قد عاد، خلال نهاية غشت من عام 1995، إلى أرض الوطن، بعفو صدر في حقه عام 1980، وقد قضى بالديار الجزائرية مدة سنتين ليلجأ بعدها إلى الديار الليبية التي عاش فيها حوالي 18 سنة لم يتوقف فيها عن متابعة أحداث بلاده عبر الصحف التي كانت من بينها جريدة “المحرر”، في حين بقي بالجزائر عدد من رفاقه إلى جانب شقيقه محمد بويقبة الذي ليس سوى زوج فاظمة أمزيان التي تعد من أبرز النساء ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بمنطقة خنيفرة، والتي كانت قد اعتقلت رفقة أطفالها وتعرضت لشتى أصناف التعذيب الجسدي والنفسي، ليتم اختطافها ثانية إثر مغادرة زوجها للبلاد، واقتيدت إلى ظلمات المعتقل وهي حامل، حيث وضعت وليدها “حفيظ” تحت ظلمات وبرودة الزنازن الوحشية.
error: