
المغرب .. مشروع الدولة وعجز التنخيب السياسي
عبد الحميد اجماهيري
19 يناير 2021
دخلت الدولة المغربية، مع مجيء العاهل محمد السادس، في دورة تاريخية (وتدبيرية) جديدة، كان جزء منها من منجز الانتقالات الكبرى، في نهاية العهد السابق. وإذا كان من الصعب الحديث عن عهد جديد وعهد سابق في دولةٍ يمثل الفاعل المركزي فيها نظام ملكي يمتد منذ قرون، فإن الواضح أن عهد الملك الراحل، الحسن الثاني، انتهى بتفاوضات تاريخية حول جزء من القضايا العالقة (الانفراج السياسي، التعديل الدستوري، الانتقال السياسي، المشكل اللغوي، قضايا الأسرة … إلخ)، أبانت عن قدرة النظام على عدم السقوط في الاستحالة السياسية، والقدرة على حل التناقضات الأساسية بدون الحاجة إلى العنف، فإن الواضح أن الطفرة التي حصلت مع عهد محمد السادس شكلت منعطفا حاسما، جعل الدولة في صلب التحول التاريخي، بل نقول إن النظام الملكي، كان هو قاطرة الجر في ترشيد التاريخ المغربي، وفتح آفاق تطبيع علاقاته مع القوى المجتمعية.
الفترة التأسيسية، إذا شئنا، تتمثل في مواصلة الانتقالات العضوية، سياسيا ودستوريا ولغويا وعبر فتح صفحات السنوات القاسية أو سنوات الرصاص وطيها، والخروج من الأحادية اللغوية الرسمية، وترسيم الأمازيغية لغة للتعدّد المؤسساتي والمجتمعي، وفتح آفاق جديدة للثورة الحداثية باسم المرأة، تمهيد الانتقال في الفترة الثانية (2010 – 2020) إلى طرح أسئلة موارد التنمية البشرية، من تعليم وفقر وشغل وصحة .. إلخ. وقد قادت بدورها إلى استشراف أفق جديد مع انطلاق النموذج التنموي الجديد. كما اتسمت هذه المرحلة الثانية بتوسيع دائرة التأثير الجيواسراتيجي، وتنويع الشراكات السياسية، والحضور الاقتصادي الكبير في القارة الأفريقية، وترسيخ المغرب قاعدة مطلوبة في الدخول إلى أفريقيا.
وفي التأهيل الاقتصادي، يكون من المجدي الإشارة إلى القطب المالي للدار البيضاء، مقدمة لتعاون ثلاثي خليجي أوروبي أفريقي، يكون هو مركزه، علاوة على الوجود في غرب أفريقيا باعتباره المستثمر المباشر الأول من داخل القارّة، مع تحوله إلى دول الأنغلوفونية عوض أفريقيا الفرانكفونية، كما كان عليه الأمر في العقود الماضية.
صارت الحرفية، المبنية على الاستباقية والتقدّم العلمي والتكنولوجي، قادرة على فرض ذاتها مخاطبا دوليا، وفي محاربة الإرهاب أو في الهجرة السرية
وبالنظر إلى دعامات الريادة الإقليمية التي تركزت عند المغرب، وجعلته، بلغة إحدى أكبر المنتقدين للسياسة والحكم في المغرب، الأستاذة الجامعية في باريس، خديجة محسن فنان، “يدخل ساحة اللاعبين الكبار إقليميا ودوليا”، فإننا نجد أن المغرب، أو الدولة المغربية بالأساس، حيث المجال المحفوظ للدولة وللفاعل المركزي فيها، تقدّمت على هذه الجهات الأربع:
أولا، مجال الأمن ومحاربة الإرهاب، وهنا صارت الحرفية، المبنية على الاستباقية والتقدّم العلمي والتكنولوجي .. إلخ، قادرة على فرض ذاتها مخاطبا دوليا، وفي محاربة الإرهاب أو في الهجرة السرية.
ثانيا، المجال الديبلوماسي، لم يعد خافيا الدور الذي تلعبه الديبلوماسية، كفضاء محصور للدولة، ومركزها في تطوير أدائها، وصارت شريكا للسلام في القارّة في الشرق الأوسط، ثالثا، الشيء نفسه بالنسبة للتأهيل الاقتصادي والمالي، الدار البيضاء قطب أفريقي، وأغلبية البنوك المغربية شكلت خريطة أفريقية لا محيد عنها للدخول إلى القارّة.
رابعا، على المستوى الديني، الثقافي، يقدّم المغرب نموذجا لنخبة مرتبطة بالدولة واستراتيجيتها، وبالإمامة (إمارة المؤمنين) أكثر من الارتباط بمشاريع حزبية أو نخبوية، وتأهيلها صار نموذجا لا يخلو أي حديثٍ ديبلوماسي منه.
ويمكن أن نضيف التأهيل العلمي نفسه الذي برزت فيه نخبة جديدة، من قبيل قيادة الطاقات المتجدّدة وإطلاق القمر الاصطناعي محمد السادس الذي جعل من المغرب البلد الأفريقي الأول في المجال، ما سيمنحه استقلالية أكبر وقدرة أعلى في الحصول على المعلومة، علاوة على كونه آلية أخرى من الآليات الصعبة في تدبير الأمن والديبلوماسية والاقتصاد والمقترب الروحي، بنيات رباعية في إحداث الريادة القارّية. وداخل المجتمع، ما زالت المبادرات الملكية، باعتمادها التوافقات الكبرى، هي الضامن لتحريك الأسئلة الكبرى.
يُنتج المجتمع كل الديناميات التوترية التي تجعل التأهيل ضرورة، بدون أن تبرز من داخله وباسمه عملية تأهيل للنخب
حدث ذلك عندما طرحت الجهوية، كإعادة لتعريف الدولة، المبنية سابقا على أسبقية المركز وقوته على حساب الجهات والأقاليم، وحدث ذلك، أيضا، في قضية الدستور، والذي كان خطاب 9 مارس/ آذار2011 الموالي للربيع المغربي في فبراير/ شباط من السنة نفسها، قد أسّس له. وفي القضيتين معا، كانت مبادرة الملكية، بما هي صلب الدولة المغربية، وفاعلها المركزي، هي الحارسة للتوافقات الوطنية الحديثة، كما كانت منذ معارك الاستقلال.
خلاصة القول: الواضح أن الدولة أهلت كل أذرعها، حيث أهّلت نخبتها الأمنية والديبلوماسية والاقتصادية والروحية، دينيا وثقافيا. وفي المقابل، يُنتج المجتمع كل الديناميات التوترية التي تجعل من هذا التأهيل ضرورة، بدون أن تبرز من داخله وباسمه عملية تأهيل للنخب التي تساير هذه التحدّيات، بل يمكن ملاحظة قطيعة بين ديناميات المجتمع الأفق العالي للبلاد، من جهة، وانشغالات النخب التي تنتجها المؤسسات الوسيطية فيه، من جهة ثانية. ويذهب متابعون إلى حد القول إنه قد انحصرت مساهمة النخب السياسية، في دور تكميلي، وأحيانا، تقزّم مناقشاتها وصراعاتها أبعاد ما يتحقق.
لقد أعادت الجائحة تجميع أدوات الشرعية كلها (رئاسة الدولة/ إمارة المؤمنين / قيادة الجيش) من أجل وضع الاستراتيجيات في تفعيل الدولة الراعية، الدولة الاستراتيجية، بيد أن المساحات الديمقراطية المتعارف عليها: الفضاء العمومي، البرلمان بغرفتيه، الميدان الترابي .. إلخ، لا ترقى، في الواقع، إلى هذا الجانب، إلا بالنسبة لبعض القوى المالكة لمشاريع سياسية، ذات توجهات ديمقراطية واجتماعية، أبانت الجائحة عن مصداقية أطروحاتها. في حين ما زال جزء كبير منشغلا بالأجندة الانتخابوية، قبل الأوان أو في غير الأوان. وتبين من حوادث أقل بكثير من القضايا المركزية، كالقضية الوطنية للصحراء، أن النخب لا تمارس نموذجية سياسية تغري بالمتابعة، كما حدث مع الأمطار أخيرا، وفيض الانتقادات داخل المجتمع بخصوص عجز النخب التنفيذية عن استخلاص الدروس من ذلك، كتقديم استقالتها عندما غرق الناس وسط مياه التساقطات.
كل القوى المؤسساتية العاملة تحت سقف الشرعية المتعارف عليها تعمل من داخل منطق التوافق
وما زالت المشاريع المضادة، على ندرتها، أو “لاتاريخيتها”، تأتي من خارج الحقل السياسي الرسمي، فالمعارضة المؤسساتية نفسها أكثر ميلا إلى التوافق مع التوجهات الكبرى للدولة، في حين تظل قوى “ذرية” من قبيل اليسار الراديكالي، الخارج عن الإجماع بخصوص الصحراء أو القوى الإسلامية من خارج الحقل القانوني، كجماعة العدل والإحسان، الساكتة عن الإجماع حول القضية الوطنية، هما ما يطرح قضايا ذات الصلة بالمشاريع المناهضة.
نحن أمام حقل سياسي لم يكتمل ربما، ولا يمكن توقع استكمال مساحته في الشهور المقبلة، أو السنوات المقبلة. كل القوى المؤسساتية العاملة تحت سقف الشرعية المتعارف عليها تعمل من داخل منطق التوافق، ولكنها بدون مبادراتٍ سياسيةٍ استراتيجية، إلا فيما ندر، عندما يتعلق الأمر بالنموذج التنموي مثلا.
لقد حققت التعدّدية كثيرا من مهامها، ومنها فرض التوافق وسيلة بدل رهان القوة أو الغلبة والهيمنة في القضايا الجوهرية، وكانت التعدّدية الحزبية والنقابية أداة للتاريخ في تحريض الدولة على مزيد من الديمقراطية، في الدفاع عن أسس الدولة الحديثة، غير أنها لم تساعد كثيرا في حسم الموضوعة الحداثية. والتعدّدية التي جاءت بالإسلام السياسي الحزبي إلى الحكم تبين أنها قد فتحت الباب للتناوب (البديل السياسي في النخبة)، لكن النخبة الإسلامية الحزبية لم تستطع أن تتحوّل نخبة بديلة، بما أنها استثمرت المشروع من أجل التموقع، ولم تستطع التجاوز الإيجابي للإرث السابق من ممارسات التدبير، واتضح، في أحيان كثيرة، أنها أكثر مسايرة للإدارة من أي تشكيل سياسي سبقها.
المجتمع لم يستطع، من خلال تعابيره السياسية المنظمة، أن يحوز قاعدة أوسع في مغرب التحوّل وإنتاج الريادة